الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها أن يذاكر محفوظاته ويديم الفكر فيها ويعتني بما يحصل فيها من الفوائد.
15-
أن يحسن تقسيمه لأوقات ليله ونهاره واغتنام ما بقي من عمره. ويقول العلموي: "إن أجود الأوقات للحفظ والأسحار، وللبحث الإبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل. وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات. ومنها أن يبكر بدرسه لخبر: "بورك لأمتي في بكورها". ويجعل ذلك "البكور" يوم الخميس. وفي رواية "بورك لأمتي في بكورها يوم سبتها وخميسها". وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اطلبوا العلم يوم الاثنين فإنه ييسر لطالبيه". ورأيت كثيرا من مشايخنا يتحرون الابتداء من يوم الأحد، فينبغي مزيد الاعتناء بهذه الأيام وهذه الأوقات إلا تجري عادة الشيخ بغير ما ذكر، فلا يعترض عليه. ويقول الزرنوجي: أفضل أوقات التحصيل شرخ الشباب ووقت السحر وما بين العشاءين. كما يقول أيضا لا بد لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره فإن ما بين العشاءين ووقت السحر وقت مبارك.
16-
في آداب المتعلم مع الكتب وهي أداة العلم يقول العلموي: "ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها في العلوم النافعة ما أمكنه شراء أو إجارة أو عارية، لأنها آلة التحصيل، ولا يجعل تحصيلها وجمعها وكثرتها حظه من العلم، ونصيبه من الفهم وقد أحسن القائل:
إذا لم تكن حافظا واعيا
…
فجمعك للكتب لا ينفع
شروط تحصيل العلم:
يورد الزرنوجي شروط تحصيل العلم، وفيها تشابه مع ما ذكر عن آداب التعلم، ويورد الزرنوجي بعض أشعار تنسب لعلي بن أبي طالب تحدد ستة شروط لتحصيل العلم هي:
ألا لن تنال العلم إلا بستة
…
سأنبيك عن مجموعها ببيان
ذكاء وحرض واصطبار وبلغة
…
وإرشاد أستاذ وطول زمان
والبلغة هنا معناها ما يكفي لسد الحاجة كما أن من معانيها أيضا "المداس" أو ما يلبس في الرجل والمقصود بطول زمان طول معايشة العلم والاشتغال به.
وقد فصل الزرنوجي الكلام عن هذه الشروط وغيرها بالنسبة لطالب العلم وما يجب أن يتحلى به من أخلاق وصفات. وفي شروط تحصيل العلم الجد والمواظبة والملازمة. وقد قيل "من جد وجد" ومن قرع الباب ولج ومن زرع حصد. ومن نظم الإمام الشافعي في هذا المعنى
الجد يدني كل أمر شاسع
…
والجد يفتح كل باب مغلق
وقال شاعر آخر:
بقدر الكد تكتسب المعالي
…
ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كد
…
أضاع العمر في طلب المحال
وقيل: من أسهر نفسه بالليل فرح قلبه بالنهار، ولا بد لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره. فإن ما بين العشاءين ووقت السحر وقت مبارك. وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
يا طالب العلم باشر الودعا
…
وجنب النوم واترك الشبعا
داوم على الدرس لا تفارقه
…
فالعلم بالدرس قام وارتفعا
ولا بد لطالب العلم من الهمة العالية. فإن المرء يطير بهمته كما يطير الطير بجناحيه. وقد قال أبو الطيب المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
…
وتصغر في عين العظيم العظائم
وعلى طالب العلم أن يتجنب الكسل لأنه كما يقول الزرنوجي شؤم وآفة عظيمة. وقد قال الشاعر:
الجد في الجد
…
والحرمان في الكسل
وقال شاعر آخر:
فكل ذي عمل في الخير مغتبط
…
وفي بلاء وشؤم كل ذي كسل
ونظم الزرنوجي في هذا المعنى:
دعي نفسي التكاسل والتواني
…
وإلا فأثبتي في ذا الهوان
فلم أر للكسالى الحظ يعطي
…
سوى ندم وحرمان الأماني
وقال الشاعر في هذا المعنى:
لا تصحب الكسلان في حالاته
…
كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة
…
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
وعلى طالب العلم ألا يكتب شيئا لا يفهمه لأن ذلك كما يقول الزرنوجي يورث كلالة الطبع ويذهب الفطنة ويضيع الوقت.
ويجب أن يجتهد طالب العلم في الفهم والتفكير والتأمل فإنما تدرك الدقائق بالتأمل. ولا بد له من المناظرة والمطارحة بدون شغب أو غضب. ولا تكون نيته من المناظرة إلزام الخصم أو قهوة أو التضليل أو التمويه أو الحيلة وإنما تكون لإظهار الحق والحقيقة. ويرى الزرنوجي أن المطارحة والمناظرة أكثر فائدة لطالب العلم من مجرد الحفظ والتكرار. فمطارحة ساعة خير من تكرار شهر. وعلى طالب العلم أن يستفيد في جميع الأحوال والأوقات من جميع الأشخاص. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها". ويروى أن أبا حنيفة رحمه الله تفقه في العلم بكثرة المطارحة والمذاكرة في دكانه حين كان بزازا أي بائع ثياب.
وعلى طالب العلم أن يتحرز عن الشبع وكثرة النوم وأكل طعام السوق إن أمكن لأن طعام السوق كما يقول الزرنوجي أقرب إلى النجاسة والخباثة وأبعد عن ذكر الله وأقرب إلى الغفلة ولأن أبصار الفقراء تقع عليه ولا يقدرون على الشراء منه فيتأذون بذلك فتذهب بركته "الزرنوجي: ص53". وهو ما أشرنا إليه.
وعلى طالب العلم أن يتحرز عن الغيبة والنميمة ومجالسة المكثار في الكلام. لأن الإكثار في الكلام في نظر الزرنوجي يسرق العمر ويضيع الوقت. ولذا وجب على المتعلم أن يتجنب أهل الفساد والمعاصي والتعطيل ويجاور الصلحاء. وقد
قال الشاعر العربي في فضل السكوت وذم الكلام:
النطق زين والسكوت سلامة
…
فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما أن ندمت على سكوت مرة
…
ولقد ندمت على الكلام مرارا
وعلى طالب العلم أن يتحمل المعاناة لا سيما من السفهاء. فقد ورد عن عيسى عليه السلام قوله: "احتملوا من السفيه واحدة كي تربحوا عشرا". "الزرنوجي: ص49".
ويجب على طالب العلم ألا يجهد نفسه إجهادا ولا يضعف نفسه حتى ينقطع عن العمل فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. بل يستعمل الرفق مع نفسه والرفق أصل عظيم في جميع الأشياء كما يقول الزرنوجي.
وينصح الزرنوجي طالب العلم باحترام أستاذه وتقديره فيقول: "اعلم بأن طالب العلم لا ينال العلم ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم أهله وتعظيم الأستاذ وتوقيره". ويورد قول علي كرم الله وجهه: "أن عبد من علمني حرفا واحدا. وإن شاء باع، وإن شاء أعتق، وإن شاء استرق". ويروي ذلك بعبارة أخرى تقول:
من علمني حرفا صرت له عبدا. وقال الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما
…
لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن جفوت طيبه
…
واقنع بجهلك إن جفوت معلما
ويقول الزرنوجي أيضا: لا بد لطالب العلم من تحمل المشقة والمذلة في طلب العلم والتملق مذموم إلا في طلب العلم فإنه لا بد له من التملق للأستاذ للاستفادة منه. وقد قيل: العلم عز لا ذل فيه لا يدرك إلا بذل لا عز فيه. وقال الشاعر في هذا المعنى:
أرى لك نفسا تشتهي أن تعزها
…
فلست تنال العز حتى تذلها
ويتفق الماوردي مع الزرنوجي في هذه النقطة فيقول "ص75": "اعلم أن المتعلم في زمان تعلمه تملقا وتذللا. إن استعملها غنم. وإن تركها حرم. لأن التملق للعالم يظهر مكنون علمه والتذلل له سبب لإدامة صبره. وبإظهار مكنونة تكون الفائدة، وباستدامة صبره يكون الإكثار. وقد روى معاذ عن النبي
صلى الله عليه وسلم: "ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم" وقال بعض الحكماء: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وقر عالما فقد وقر ربه".
ويورد الماوردي تسعة شروط لتحصيل العلم يتوفر بها علم الطالب وينتهي معها كمال الراغب وهي تتفق إلى حد كبير مع ما أشار إليه الزرنوجي. وهي:
1-
العقل الذي يدرك به حقائق الأمور.
2-
الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم.
3-
الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه.
4-
الميل والاهتمام الذي يسميه الماوردي بالشهوة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليها الملل.
5-
الاكتفاء بمادة "مال" تكفيه عن كلف الطلب.
6-
الفراغ الذي يكون معه التوفر ويحصل به الاستكثار.
7-
عدم القواطع "أي الموانع والحوائل" المذهلة من هموم وأشغال وأمراض.
8-
طول العمر واتساع المدة لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال.
9-
الظفر أو الفوز بعالم أي أستاذ سمع بعلمه متأن في تعليمه.
فإذا استكمل طالب العلم هذه الشروط التسعة فهو أسعد طالب وأنجح متعلم. وقد قال الإسكندر: يحتاج طالب العلم إلى أربع: مدة، وجدة، وقريحة، وشهوة "اهتمام" وتمامها في الخامسة وهي معلم ناصح.
ويقول الماوردي: لن يدرك العلم من لا يطيل درسه ويكد نفسه. وكثرة الدروس كد لا يصير عليه إلا من يرى العلم مغنما والجهالة مغرما، فيحتمل تعب الدرس ليدرك راحة العلم وينفي عنه معرة الجهل فإن نيل العظيم بأمر عظيم وبحسب الراحة يكون التعب. وربما استثقل المتعلم الدرس والحفظ واتكل بعد فهم المعاني على الرجوع إلى الكتب والمطالعة فيها عند الحاجة فلا يكون إلا كمن أطلق ما مصاده ثقة بالقدرة عليه بعد الامتناع منه. فلا تعقبه الثقة إلا خجلا والتفريط إلا ندما. ويرجع الماوردي السبب في ذلك إلى ضجر المتعلم من معاناة