الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طبيعة المعرفة وأنواعها:
شغل المسلمون بالحديث عن طبيعة المعرفة في الإسلام وتكلموا عن
خصائصها وقد انقسموا إزاءها إلى رأيين:
- أحدهما يرى أن المعرفة توقيفية أي أنها توقيف من الله على عبده ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فإذا كان آدم أبا البشر والله سبحانه وتعالى علمه الأسماء كلها فهو قد علمها لذريته من بعده. {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
- والرأي الثاني يرى أن المعرفة مكتسبة وهو رأي يستند إلى أسانيد من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
كما شغل علماء المسلمين بالحديث عن المعرفة وأنواعها ومصادرها. ويشير أبو حنيفة إلى أن مصادر المعرفة في الإسلام أربعة: كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه واجتهاد وإجماع. ويمكن القول بأن أهم أنواع المعرفة التي تقوم عليه التربية الإسلامية هي:
1-
المعرفة اللدنية:
المعرفة اللدنية هي المعرفة التي يكشفها الله للإنسان، قال تعالى:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} . وقال عز وجل: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} . والله عز وجل في معرفته غير المحدودة يلهم بعض الناس المختارين ويوحي لهم بتعاليمه ليحملوها إلى الناس وتكون متاحة أمام جميع الجنس البشري. وهذه المعرفة بالنسبة للمسلمين توجد في القرآن الكريم والسنة. والشخص يتقبلها على أساس الإيمان ويعمل على دعمها كلما أمكن ذلك بالعقل والخبرة. والمسلم الصحيح هو الذي يتقبل ما جاء من عند الله على لسان نبيه الكريم على أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فالقرآن أو الكتاب هو كلام الله تعالى، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، تبيانا لما به صلاح الناس في دنياهم وآخراهم وهو حجة واجبة العمل بما ورد فيه من أحكام، وهو قانون واجب الاتباع والرجوع إليه، ومصدر التشريع وأحكامه، ومنبع هداية وإرشاد، والدليل على ذلك أنه من عند الله وقد احتوى
على الأمر الصريح بوجوب اتباعه، والعمل بما تضمنه من الأحكام قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} .
ويمكن أن نستمد المعرفة من القرآن فيما يتعلق بالأمور الآتية:
1-
العقائد التي يجب التصديق بها كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وهو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر.
2-
الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة التي تهذب النفوس وتصلح من شأن الفرد والجماعة.
3-
الإرشاد وطلب النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله فيها.
4-
قصص الأولين أفرادا وجماعات.
5-
الأحكام العلمية، فقد وضعها أو وضع أصولها وكلفنا اتباعها وما ينظم علاقة البشر بربهم، وعلاقتهم مع بعضهم البعض.
والسنة في اللغة الطريقة، فإذا أضيفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لفظا أو دلالة كان المراد ما أثر عنه من قول أو فعل أو تقرير والسنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي وهي مكملة له. وهي تنقسم إلى قسمين:
- السنة المتواترة: وهي ما رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عن جمع يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وذلك من أول السند إلى منتهاه.
- السنة غير المتواترة: وتسمى السنة الآحادية عند غير الحنفية، وهي التي لم تتواتر في جميع العصور الثلاثة.
وقد أثبت المحققون من العلماء كثيرا من الأحكام التشريعية بالسنة القولية والعلمية واعتبروها حجة، وأصلا من أصول التشريع، ومصدرا من المصادر الشرعية والدليل قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهذا النوع من السنة هو ما يعرف بالسنة التشريعية الملزمة. وهناك نوع آخر من السنة لا يحمل طابع التشريع أو الإلزام وهو يشمل الأحاديث التي تتعلق بحياة الرسول البشرية مثل حبه لبعض الأطعمة والأشربة واللباس وما
شابه ذلك من الأحاديث التي لا تمت بصلة مباشرة إلى الشريعة بمعناها العام ولقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "أنتم أعلم بأمور دنياكم فإنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"، يقول الراغب الأصفهاني "توفي 502هـ/ 1108م" أحد أئمة السنة في كتابه "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين": واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلا إلى معرفة كليات الأشياء دون جزئياتها
…
والشرع يعرف كليات الأشياء ويبين ما الذي يجب أن يعتقد ولا يعرفنا العقل مثلا أن الخنزير والدم والخمر محرم وألا تنكح ذوات المحارم وألا تجامع المرأة في حال الحيض فإن أشباه ذلك لا سبيل إليها إلا بالشرع. فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة.
2-
المعرفة الوثقى:
هذه المعرفة تصدر عن كبار العلماء والمختصين. فالمعرفة الموجودة بدوائر المعارف الإسلامية، والفتاوى الكبرى المشهورة وكذا أمهات الكتب الإسلامية مثل الرسائل العلمية والمطبوعات المتخصصة التي اضطلع بها أناس متمكنون معترف بهم كلها أمثلة للمعرفة الوثقى، ولهذه المعرفة قيمتها الكبرى لأنها تصدر عن مصادر موثوق بها. ويحدث ذلك في كل العلوم بصرف النظر عن طبيعتها الدينية أو العلمية ونحن مثلا في التعليم المدرسي نقبل دون مناقشة صيغا لحل بعض المسائل الرياضية مثلا أو نستظهر بعض القواعد والصيغ والقوانين أو المعادلات، وبوسعنا أن نتحقق من صحة هذه الصيغ والقوانين شخصيا، ولكننا نفضل تقبلها بقصد الاقتصاد في الوقت والجهد، وفي نهاية الأمر تحظى هذه القواعد بالاحترام في أنظار الثقاة في العلم لمدة طويلة. وكثير من معرفتنا الواقعية يقوم على هذه الثقة وأصبح لها قيمة كافية لتخليدها والاحتفاظ بها.
3-
النقل عن السلف:
وهو يمثل مسلك الخبر الصادق الذي يفيد العلم والمعرفة، وهناك أخبار
مقطوع بصدقها مثل أخبار القرآن الكريم ورسله وأنبيائه ومن هم في مرتبتهم وهناك الأخبار التي يرجع صدقها واشترط الإسلام لقبولها بالنسبة للأخبار العادية من علمية وتاريخية أن يتوافر في صاحبها ثلاثة شروط: العدالة وهي ألا يكون قد عهد عليه كذب أو معصية، والأهلية الفكرية لنقل الأخبار دون تعرض لنسيان أو اضطراب، وأخيرا اتصال الراوي بمصدر الخبر أو بمن رواه.
ويعتبر النقل عن السلف مصدرا من مصادر المعرفة في الإسلام، وهو يمثل خلاصة تجارب أسلافنا الصالحين وخبرتهم، ويهمنا أن نعرف ما قاله هؤلاء السلف حتى ننسج على منوالهم ونواصل حياتنا من حيث انتهوا إليه. ولهذا يجب أن نهتم بتراثنا الأصيل وأن نخلصه من الشوائب ونقدمه لشبابنا ونشئنا في صورة مقبولة تحببهم فيه.
4-
التقليد:
يقول ابن عبد البر النمر القرطبي في جامع بيان العلم وفضله "ص12، 45" إن حد العلم عند العلماء هو ما استيقنته وتبينته. وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه ومن لم يستيقن الشيء وقال به تقليد لم يعمله. والتقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع. لأن الاتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه فهذا هو التقليد الأعمى. وقد قيل لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد. ومن منظوم القرطبي في التقليد قوله في هذا المعنى: "ج2، ص140".
يا سائلي عن موضع التقليد خذ
…
عني الجواب بفهم لب حاضر
لا فرق بين مقلد وبهيمة
…
تنقاد بين صنادل ودعائر
تبا لقاض أو لمفت لا يرى
…
عللا ومعنى للمقال السائر
فإذا اقتديت فبالكتاب وسنة الـ
…
ـمبعوث بالدين الحنيف الطاهر
ثم الصحابة عند عدمك سنة
…
فأولاك أهل نهى وأهل بصائر
وكذاك إجماع الذين يلونهم
…
من تابعيهم كابرا عن كابر
إجماع أمتنا وقول نبينا
…
مثل النصوص لدى الكتاب الزاهر
وإذا الخلاف أتى فدونك فاجتهد
…
ومع الدليل فمل بفهم وافر
وعلى الأصول فقس فروعك لا
…
تقس فرعا بفرع كالجهول الحائر
والشر ما فيه فديتك أسوة
…
فانظر ولا تحفل بزلة ماهر
وهذا يعني أن التقليد بدون فهم أو وعي لا يجوز لأهل العلم والعلماء.
أما العامة من الناس فلا خلاف في أنهم يقلدون علماءهم وهم المقصودون بقوله عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وقد أجمع العلماء على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره من الثقات إذا أشكلت عليه معرفة القبلة. فكذلك من لا علم له ولا بصر لا بد له من تقليد عالمه.
ويقصد بالتقليد في معنى من المعاني المعرفة التي تؤخذ عن رجال يطمأن عليهم ويوثق في علمهم وهو ما صنفناه تحت المعرفة الوثقى. ولكن التقليد الذي نقصده هنا هو الاقتداء تمشيا مع قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا عندما قال لأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" والتقليد بهذا المعنى مصدر من مصادر المعرفة.
بيد أن ما يعنيه الإسلام هو التقليد الواعي الحكيم الذي يتحقق به منفعة محققة للإنسان. أما القليد الأعمى فهو مكروه في الإسلام لما يترتب عليه من عدم تمييز بين الخير والشر والحق والباطل والصالح والطالح، والإنسان قد يتوصل إلى أشياء مفيدة ونافعة نتيجة اجتهاداته الشخصية وتقليده في هذه الحالة مفيد، وكذلك يصبح تقليد القدوة الصالحة مسلكا مرغوبا في الإسلام حث عليه كمنهج سليم للتربية وضرب له مثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير. ومن الأمور العادية المعروفة أن الصغير يقلد الكبير والابن يقلد أباه والبنت تقلد أمها والتلميذ يقلد معلمه. والتقليد مهم إذن في التربية الخلقية وفي تزكية السلوك الرشيد. والتقليد يترسخ بالتقليد وهي نقطة هامة ينبغي أن تولي التريبة اهتمامها بها وأن تكون المدرسة نموذجا يقتدى للتقاليد الإسلامية السليمة.
5-
المعرفة العقلية:
من المعارف ما يكتسب عن طريق العقل والتأمل الفكري من مسالك اكتساب المعارف والعلوم وما يرتبط بذلك من تحليل وتركيب وقياس واستنتاج وربط. والقرآن الكريم حافل بالأمثلة التي تحث المسلمين على استخدام عقولهم وتفكيرهم في الاختيار والتمييز والمفاضلة، بل وتحث المسلمين أيضا على تحكيم العقل في الأمور التي لم يرد فيها نص ديني صريح، ولقد ارتقى الله بالإنسان بأن جعل له عقلا يميز به وهو مطالب بأن يستخدم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه. والعقل مصدر هام للمعرفة التي منها نستمد أحكاما يتسق بعضها مع بعض. فمثلا نجد أن الحقائق المنطقية والرياضية هي أنواع من المعرفة التي تحتكم إلى العقل. خذ مثلا القضية القائلة بأن القوانين المتناقضين لا يمكن أن يكونا صادقين في نفس الوقت، أو القضية القائلة بأن الخطين المتوازيين لا يلتقيان. فهاتان القضيتان مستقلتان عن الأمثلة الواقعية وغير مستمدتين من الحواس. إنهما صحيحتان بغض النظر عن خبرتنا بهما. هؤلاء الذين يؤكدون أن العقل هو العامل الهام في المعرفة في شكل حقائق مجردة وفي شكل انطباعات منفصلة، ولكنهم يعتقدون أن الفكر يقوم بتفسير وتنظيم هذه الأجزاء الضئيلة من المعلومات فيما يمكن أن نطلق عليه اسم المعرفة الثابتة ذات القيمة.
إن المعرفة عند ابن سينا تنقسم إلى ثلاثة أنواع: معرفة بالفطرة، ومعرفة بالفكرة، ومعرفة بالحدس، فأما المعرفة بالفطرة فهي المبادئ الأولى كقولنا:"إن الواحد نصف الاثنين". وأما المعرفة بالفكرة فهي معرفة مكتسبة وتكون أكبر من مجهود النوع الأول ولا يدركها إلا من وصل إلى مرتبة العقل المستفاد. وهناك نوع ثالث من المعرفة هو المعرفة بالحدس
…
فمن الناس من لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كبير عناء وإلى تخريج وتعليم، بل تراه كأنه يعرف كل شيء بنفسه حدسا بلا قياس وبلا معلم كأن فيه روحا قدسية. وهذا الاستعداد الحدسي ليس على درجة واحدة في جميع الناس وإنما هو متفاوت تفاوتا لا ينحصر في حد.
على أن المعرفة المستفادة من خلال العقل لها حدود عامة. فهي تنحو إلى
أن تكون مجردة. ذلك أنها تتناول عالم العلاقات والمعاني ولا تقدم سوى فهم ضئيل لعالم الأشياء. وحيث إن حياتنا منغمسة بلا مناص في العالم الفيزيائي المادي، فإننا بحاجة إلى عون من الأنماط الأخرى من المعرفة، وأكثر من هذا فإن عملياتنا العقلية قد تكون متأثرة بالتحيزات والاهتمامات والميول التي تمنع العقل في الغالب من أن يكون موضوعيا. ولهدا انتقد الغزالي ومن بعده الفيلسوف الألماني "كانط" العقل واتهماه بالعجز والقصور في التوصل إلى إدراك الذات الإلهية أو المعبود الأعلى.
ويستخدم العقل الصرف في نطاق أضيق في الوقت الحاضر عما كان عليه الحال في العصور القديمة للفلسفة عندما اعتقد الإنسان أن العقل وحده هو المهيمن. وعلى هذا فما يزال هو الفيصل والقاضي في المعرفة إذا ما أريد للمعرفة أن تكون معقولة. فهنا يجد العقل نفسه في ضع صعب بلا ريب. وذلك لأن العقل البشري كما يبدو يجب أن يحكم على نفسه بالفعل. وقد حث الإسلام على استخدام العقل والتفكير وجعلهما أساسا للمسلم الحق الذي يتقي الله حق تقاه قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وقد جعل الإسلام العقل أساس التكليف وأسقطه عمن ذهب عقله أو أصابه الخبل، ومن لا يعقل فهو من شر الدواب. قال تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} .
ومن أهم مبادئ الإسلام: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم" وقد أشار الغزالي إلى هذا بقوله: أن يقتصر المعلم بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه فينفره أو يخبط عليه عقله".. وقد اقتدى الغزالي في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم عندما قال: "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم".
فقد وضع الدين الإسلام العقل موضعا عظيما فجعل طريقه هداية للناس بمدى كمال عقولهم فلا يخاطب العاقل بما يخاطب به الجاهل ولا يخاطب ذوو العقول الخفيفة بما يخاطب به العقلاء ذوو العقل الكامل، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما أحد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كانت فتنة على بعضهم". فهنا
يراعي الرسول صلى الله عليه وسلم مستوى العقول رعاية عظيمة فلا يخاطب الأذكياء بما يخاطب به الأغنياء، ولا يخاطب الخاصة بما يخاطب به العامة، فالذكي يفهم الشيء بالإشارة، والغبي ربما لا يفهمه إلا بعد أن يكرر له عدة مرات، ولذلك قيل: كِلْ لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وضع كل شيء في موضعه.
ويعتبر الاجتهاد نمطا من أنماط المعرفة ومصدرا من مصادرها في التربية الإسلامية، وقد كان الاجتهاد دائما دليلا على تقدم المسلمين ورقيهم لأنه يساعدهم على تطويع أمور دينهم لدنياهم على اختلاف أحوالها على مر السنين. ويرتبط الاجتهاد بالعقل والقياس كما أنه يرتبط بالمعرفة الوثقى التي سبق أن عرضنا لها.
6-
المعرفة الحسية:
تعرف المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس بالمعرفة الحسية. فنحن نشكل صورتنا عن العالم من حولنا عن طريق البصر والسمع والشم واللمس والذوق، وبذا تتكون المعرفة من أفكار تتشكل وفق وقائع تمت ملاحظتها. ونحن نكتسب المعرفة الحسية عندما نرى أو نسمع أو نلمس أو نشم أو نتذوق بينما نكتسب المعرفة العقلية عندما نتأمل الأشياء من خلال العقل.
فهناك من المعارف ما يكتسبه الإنسان عن طريق استخدام الحواس الظاهرة بشكل مباشر. فمن الأشياء ما يبصر العين أو يلمس باليد أو يشم بالأنف هكذا. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} ، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وهذه الحواس تساعدنا على إدراك ما حولنا في الكون والفضاء وما يجري فيه من أمور مختلفة من حركات وسكنات وألوان وأصوات وغيرها، نحس بالأشياء إحساسا مباشرا الصلبة منها واللينة والثقيلة والخفيفة كما نحس بالسعادة والحزن والألم والفرح والحب والكراهية وغير ذلك من المشاعر والأحاسيس.
ويؤكد الفارابي في نظريته للمعرفة على أهمية الحس فيقول: "فالمعارف إنما تحصل على النفس بطريق الحس"
…
ويستشهد بقول أرسطو في كتاب "البرهان": "إن من فقد حسا فقد علما"
…
بيد أن الفارابي لا يلغي دور العقل بل يؤكده لأنه يرى أن المعرفة لا تحصل للإنسان بمجرد مباشرة الحس للمحسوسات وإنما بعد تدخل قوى نفسية. يقول الفارابي:
"
…
وقد يظن أن العقل تحصل فيه صورة الأشياء عند مباشرة الحس للمحسوسات بلا توسط وليس الأمر كذلك، بل بينهما وسائط، وهو أن الحس يباشر المحسوسات فتحصل صورها فيه ويؤيدها إلى الحس المشترك حتى تحصل فيه فيؤدي الحس المشترك تلك الصور إلى التخيل والتخيل إلى قوة التمييز ليعمل التمييز فيها تهذيبا وتنقيحا ويؤديها منقحة إلى العقل
…
".
إن المعرفة عند الغزالي نوعان: نوع محسوس يعرف عن طريق الحواس ونوع معقول يعرف عن طريق العقل، ويقول في ذلك:"فإذا عرفت انقسام الموجودات إلى محسوسات وإلى معلومات بالعقل ولا تباشر الحس والخيال. فأعرض عن الخيال رأسا وعول على مقتضى العقل فيه".
ويرى الغزالي أن المعرفة المستمدة من الحواس مثلها مثل المعرفة المستمدة من العقل غير يقينية لما تنطوي عليه من خداع. وفي ذلك يقول في "المنقذ من الضلال": "من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك.. وتنظر إلى الكواكب فتراه صغيرا في مقدار دينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار
…
فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا". ويتفق في هذا الرأي مع الغزالي الفيلسوف الفرنسي المعروف "ديكارت". فهو يرى أن المعلومات المستمدة من الحواس قابلة للشك. وحجته في ذلك أن ثمة أحلاما نراها وأوهاما نتصورها، ونعتقد اعتقادا جازما في وجودها مع أنها مجرد أحلام وخيالات. "عمارة نجيب: 36".
ويعتبر الغزالي تمشيا مع المدرسة المثالية أن المعرفة المستمدة من العقل تعلو في قيمتها على المعرفة المستمدة من الحواس لأن الحواس، في نظره خادعة
ومضللة. ولذلك جعل معرفة العقل حاكما ومسيطرا على معرفة الحواس يقول الغزالي: "فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي فجاء حاكم العقل فكذبني. ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي".
بيد أن الغزالي يتشكك في المعرفة العقلية ويعتبر أن هناك نوعا من المعرفة يعلو فوق مستوى العقل، وهو يقول في ذلك "فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى العقل فكذب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته" ويرى الغزالي أن الشك الفلسفي هو الذي يوصلنا إلى أن المعارف العقلية والحسية لا تؤدي بنا إلى المعرفة اليقينية التي يسعى إليها الفيلسوف.
وابن حزم القرطبي "384هـ - 456هـ" يعلي من شأن العقل ويمجده ويقول: "من أبطل العقل فقط أبطل التوحيد إذ لولا العقل لم نعرف الله عز وجل" وهو يعتبر العقل والحواس مصدرين رئيسيين للمعرفة في الإسلام ويقول: "المعرفة تكون بشهادة الحواس بأول العقل ببرهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس".
ومن الطريف أن بعض علماء المسلمين ومتكلميهم اهتم بالمفاضلة بين حاستي السمع والبصر فذهب فريق إلى القول بأن السمع أفضل من البصر لأن الإنسان يسمع من كل الجهات كما أنه يسمع في النور والظلمة على السواء. في حين أن الإنسان يبصر ما يراه أمام عينيه فقط ويقتصر إبصاره على النهار أو الضوء دون الليل أو الظلمة. وذهب فريق آخر هو أكثر المتكلمين إلى تفضيل البصر على السمع لأن البصر يدرك الأشياء كلها من أجسام وألوان وأشكال مختلفة في حين أن السمع يقتصر على إدراك الصوت والكلام فقط.
وهذه المفاضلة لا تعني بالطبع الاهتمام بحاسة وإغفال الأخرى وإنما تعني توضيح الأهمية النسبية لكلتا الحاستين كمصدرين هامين للمعرفة مع التسليم سلفا بأن كلتيهما تتساويان في الأهمية ولا غنى للإنسان عنهما في اكتساب المعرفة.
بيد أن المعرفة المستمدة من الحواس يكون مجال الاتفاق عليها عادة أكثر من تلك المستمدة من العقل. وعلى الرغم من أننا نعتمد على حواسنا بالنسبة لمعرفتنا المتعلقة بالحياة اليومية، فإن هذه الحواس تخدعنا في بعض الأحيان. كما هو الحال في المثال التقليدي الخاص بالعصا التي تبدو منحنية في الماء. ولكن يتضح أنها مستقيمة عندما تقوم بلمسها. ولقد تؤثر أيضا في انحيازاتنا في طريقة رؤيتنا.. ففي بعض الأحيان نرى ما نحب رؤيته، لا ما هو واقع بالفعل. ولقد نقل دقة حواسنا أكثر فأكثر بسبب العوارض التي تطرأ على الإنسان ومنها المرض أو بسبب بعض العناصر المؤثرة كالبرد والضباب والحرارة والصوت. ومع هذا فإن للحواس دورها الخاص الذي تلعبه في تشكيل المعرفة.
ويرتبط منهج العلم ارتباطا وثيقا بهذا الجانب بالذات من نظرية المعرفة، وذلك لأن العلم الحديث تجريبي. والعلوم التجريبية أو الطبيعية تُعنى بدراسة عالم الأشياء المحسوسة أو عالم المادة وهي تبحث في الأشياء الواقعة تحت التجربة أو الذرات فإن العلم التجريبي يستطيع أن يفسرها بغيرها. والعقل يدخل في دراسة هذه العلوم. فالأصوات والألوان وما شابهها تتوقف على عقل الشخص المدرك لها. فعندما نرى لون ماء البحر أزرق أو السماء زرقاء فهذا لا يعني أن الزرقة صفة موجودة في ماء البحر. وشكل السماء، وإنما هو إحساس "بهذا اللون مرهون بفعل المادة وتأثيرها. فإدراك الألوان أو الأصوات أحوال ذاتية للشخص المدرك وليست جزءا من الطبيعة. يقول محمد إقبال "ص52":
إن ما نسميه بالعلم ليس نظرة واحدة متسقة للحقيقة، بل هو مجموعة من النظرات الجزئية لها. فالعلوم الطبيعية تبحث في المادة وفي الحياة وفي العقل، ولكنك إذا سألت عن كيفية العلاقة المتبادلة بين هذه الأمور الثلاثة وهي المادة والحياة والعقل أخذت تتجلى لك عند ذلك جزئية العلوم المختلفة التي تتناول البحث فيها، وتبين لك عجز كل واحد منها عن أن يجيب وحده عن سؤالك إجابة شافية". فكل علم من العلوم يدرس جزءا من الحقيقة وجانبا منها. وهكذا نرى أن العلوم الطبيعية أو التجريبية جزئية بطبيعتها.. وهي لا تستطيع أن تقيم
نظرياتها مع اعتبار أنها رأي كامل عن الحقيقة. ومن ثم فإن الدين وهو ينشد الحقيقة على أنها كل لا يتجزأ لم يكن ليخشى أي رأي من الآراء الجزئية عن الحقيقة. وليست المعرفة التجريبية بالضرورة أكثر أنواع المعرفة وثوقا من بين أنواع المعرفة الأخرى كما قد يزعم البعض. فهي تتخذ مكانها جنبا لجنب مع الأنماط الأخرى كإحدى الطرق المؤدية إلى فهم الحقيقة. ويستطيع المعلم مساعدة الطلاب على الفهم والتمييز بين الرأي والواقع وبين الاعتقاد والإيمان والمعرفة.
ويستطيع المدرس أيضا أن يناقش الطرق التي تكتسب المعرفة بواسطتها سواء عن طريق الله أو الوحي أو النقل عن السلف أو الحدس أو العقل أو الحواس أو التجريب. واليوم نجد أن المعرفة المستمدة من خلال التجريب العلمي هي أكثر المعارف شيوعا. وهذا لا يعني أن الطرائق الأخرى خاطئة أو بلا فائدة، بل على العكس فإن المدرس يستطيع أن يظهر أن الطرق المختلفة تكمل بعضها بعضا. فالإدارك الحسي وحده سوف يوفر وقائع ومعلوما ت مجزأة. ولكننا بحاجة إلى العقل لكي نفسر المكتشفات التجريبية ونوحد بينها في نظرية أو قانون. بيد أن التفكير المنطقي إذا ما ترك يعمل وحده، فإنه سوف يصبح خاويا من المضمون وتعمل كل من المعرفة اللدنية والمعرفة الحدسية والمعرفة الوثقى والنقل عن السلف أحسن من غيرها من مواقف الحياة المختلفة.
والواقع أن الحياة متباينة جدا وغير قابلة للتنبوء بالنسبة لأي شخص بحيث لا يستطيع أن يقدم قضايا نهائية حولها. والسؤال الهام بالنسبة للمدرس هو "كم من الوقت والجهد ينبغي أن يكرس لكل من هذه الطرائق؟ ". ولسوف تعتمد الإجابة إلى حد بعيد على المادة التي يقوم بتدريسها. فالمواد تختلف في طبيعتها والتالي تختلف في استخدام نوع المعرفة الموصل إليها، فالمعرفة اللدنية تكون أكثر استخداما في العلوم الدينية والمعرفة العقلية في العلوم الطبيعية والرياضية وكلتاهما يستخدم لمساعدة الطالب على تكوين أسلوب رشيد له في الحياة.