الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما تعريف الاحتساب في الاصطلاح فهو:
أمر بمعروف إذا ظهر تركه. ونهي عن منكر إذا ظهر فعله. وعلى هذا فالاحتساب ينبني على عمودين:
العمود الأول:
" الأمر بالمعروف، والمطلوب فيه دعوة الناس إلى الحق والخير والعدل، إذ المعروف هو كل قصد، أو قول، أو فعل حسنه الشرع وأمر به، وتعارف عليه الناس أنه من أمر الله.
والعمود الثاني:
هو " النهي عن المنكر "، والمطلوب فيه إرشاد الناس، بحبسهم عن الوقوع في الإثم والظلم والشر؛ لأن هذه المعاني تئول كلها إلى المنكر " من العزائم والأقوال والأفعال، التي أنكرها الشرع وقبحها، ونهى عنها، وتعارف الناس على أنها شر فأنكروها فأصبحت لذلك " منكرا ". وبعبارة حديثة الحسبة: هي رقابة اجتماعية يقوم بها الأفراد، أو المجتمع. أو رقابة إدارية تنظمها الدولة تحقيقا للخير والعدل، ودفعا للشر والإثم.
(ب)
حاجة الطبيعة البشرية للاحتساب:
" إن الطبيعة البشرية المتفردة، المتغيرة، في حاجة دائمة للاحتساب الذي هو دعوة متجددة إلى الخير، ونهي مستمر عن الشر. ذلك أن الإنسان - في الغالب - كائن غريب الأطوار، لا يستقر على حال، خاصة في أمر الهدى والضلال، والطاعة والعصيان، أو الكفر والإيمان. . . فهو يحتاج للاحتساب لأمور تتعلق بقلبه، وعقله، ونفسه، وطبعه.
أولا: فيما يتعلق بقلبه: فإن القلب سمي بذلك؛ لأنه متقلب لا يستقر على حال. كما قال الشاعر فيه وفي حامله:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
…
وما القلب إلا أنه يتقلب
فهو يتقلب بين غني مطغي، وفقر منسي، وهو في حالة كفره ليس كمثله في حالة إيمانه، وهو في حالة إيمانه بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولذا لزم تذكيره، والدعاء له بالثبات، بمثل دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم:«يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك (1)» .
ثانيا: فيما يتعلق بعقله: فإن العقل وحده لا يكفي في الوصول إلى الرشاد، إذ لا يعدو أن يكون في بعض الأحيان مثل آله - لا يحسن استخدامها، فتضر أكثر مما تفيد، قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (2).
ثالثا: فيما يتعلق بنفسه فهي في جبلتها أمارة بالسوء، فلا بد أن يتولاها صاحبها بالمجاهدة، ويتعهدها المربون بالعناية والتذكير حتى ترتفع من درجة الأمارة؟ إلى درجة (اللوامة) إلى درجة (المطمئنة)؛ لأن الله فطرها قابلة لتنزل الخير والشر قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (3){فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (4){قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (5){وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (6).
رابعا: فيما يتعلق بطبعه مما ركب فيه من ميول وغرائز وجنوح للشهوات يقول الله تعالى مبينا هذا الجانب:
(1) سنن الترمذي القدر (2140)، سنن ابن ماجه الدعاء (3834).
(2)
سورة الأعراف الآية 179
(3)
سورة الشمس الآية 7
(4)
سورة الشمس الآية 8
(5)
سورة الشمس الآية 9
(6)
سورة الشمس الآية 10
(7)
سورة آل عمران الآية 14
ولذا فإن الإنسان إذا ما حصل على بغيته من متاع الدنيا، وسارت معه ريح الشهوات كما يهوى، فإنه ينسى كل شيء حتى نفسه التي بين جنبيه، بل وينسب لها ما ليس لها، ويدعي فيما أوتي من متاع مثل ادعاء قارون:
{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (1).
ولذا لزم تذكيره، كي لا يعدو قدره، ويتجاوز حده. . . . ومن طبع الإنسان أيضا حين يحصل مراده، وما تشتهيه نفسه أن يجنح إلى الطغيان، وتلك حقيقة ثابتة قررها القرآن الكريم في قوله عز وجل:
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (2){أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (3).
ومن شأن الطغيان أن يحمل على الظلم، ومن شأن صاحبه أن يكون كنودا جحودا كما جاء بيانه في الآية:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (4){وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} (5){وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (6).
ولكن بإيزاء هذه الصفات التي تصطرع في داخله، نرى أن الله تعالى قد منحه صفات أخرى فيها من السمو والكمال ما يرفعه إلى آفاق عليا - إذا استقام عليها وأخذ بعزائمها، فقد أعطاه منحة العقل، الذي به يعرف الهدى، أعطاه خاصية التعبير الذي به يبين، وميزه بفضيلة التعليم حتى يغاير البهيم. وذلك كله من رحمته - سبحانه - التي تجلت في اسمه الفريد " الرحمن "، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ} (7){عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (8){خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (9){عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (10). ومن الصفات التي امتن الله تعالى بها على الإنسان، وجعلها من آياته: الرحمة التي أودعت بين جنبيه، والمودة التي تملأ نفسه، والعطف الذي يخالط شغاف
(1) سورة القصص الآية 78
(2)
سورة العلق الآية 6
(3)
سورة العلق الآية 7
(4)
سورة العاديات الآية 6
(5)
سورة العاديات الآية 7
(6)
سورة العاديات الآية 8
(7)
سورة الرحمن الآية 1
(8)
سورة الرحمن الآية 2
(9)
سورة الرحمن الآية 3
(10)
سورة الرحمن الآية 4
قلبه، والصبر الذي يتحلى به، والحياء الذي يزينه، والعفة التي ترفعه، والإيمان والتقوى اللذان يحلقان به بعيدا عن دنيا الغافلين.
ولكن هذه الأخلاق قلما تصفو في النفس، وقلما يحتمل الصبر على عنتها معظم الناس، لذا فإن الحق تبارك اسمه يقول:
{وَالْعَصْرِ} (1){إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2).
ولا يستثنى من ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (3) بقلوبهم ونطقوا بألسنتهم، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (4) بجوارحهم، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (5) وهو أداء الطاعات، وترك المحرمات {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) على المصاب، وأذى من يؤذي، ممن يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر (7).
وعند التأمل في هذه السورة، نعلم أنها قد شخصت الداء وأعطت الناجع من الدواء. . . روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال:" لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم ".
وخلاصة القول نجدها فيما ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله إن الأمر والنهي لازمان للإنسان. ". . . وكل البشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يؤمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف، وإما بمنكر كما قال تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (8) انتهى.
ولا شك أن هذا الذي قررناه يسقط زعم بعض مرضى القلوب، ممن يرفضون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنهم يخدعون الناس ببريق الألفاظ الزائفة
(1) سورة العصر الآية 1
(2)
سورة العصر الآية 2
(3)
سورة العصر الآية 3
(4)
سورة العصر الآية 3
(5)
سورة العصر الآية 3
(6)
سورة العصر الآية 3
(7)
انظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، ج 3، ص 674 (طبع دار القرآن)، بيروت 1981 م).
(8)
سورة يوسف الآية 53
" كاحترام الحرية الشخصية " و " رفض الوصاية على الناس " و " رفض التعصب " و " البعد عن الهوس الديني ".
أما حقيقة ما يريد هؤلاء فهو شيوع الفاحشة، وإباحة المعصية، واتباع الشيطان، ومخالفة أمر الرحمن، وأصدق دليل على هذا نقول - قول الله تعالى:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (1).
ولنستعرض الآن بعض هذه الألفاظ التي يصرفون بها الناس عن تلقي الهدى، أو الدعوة إليه، لنرى أي مهلكة يريدها هؤلاء للمؤمنين؟ فدعوى الحرية الشخصية (التي راجت في المجتمعات الغربية) تقف في وجه الدعوة إلى الله؛ لأنهم يأخذونها بمعنى (الإباحة، لكل ما هو محظور، وإتيان كل (منكر) والامتناع عن أداء كل ما هو " معروف ". فهم بهذه الدعوة يريدون منع " الاحتساب " على أصحاب المعاصي. وهذه دعوى باطلة لأن حرية الشخص تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، بمعنى أن فاعلي الشرور والآثام إذا تركوا على هواهم فإنهم لا ريب ضارون ومنقصون لحريات الآخرين، فإذا ترك الأمر للسكارى والمدمنين مثلا - على ما يشتهون - كما يكون الحال قبل الأخذ بالأحكام الشرعية أو حين التراخي في تطبيقها - فإنهم لن يتركوا موضعا إلا وتفوح منه رائحة الخمر، ولا يرضيهم إلا أن تكون الخمر والمخدرات في كل ركن وبيت كما كان مشاهدا.
وإذا تركت الأمور لأهل الخنا والفجور، فإنهم لا يرضون بديلا لإشاعة الفاحشة؛ لتعم رائحة الرذيلة كل الأرجاء. . . وإذا تركنا الأمر للطامعين في أموال الناس ومقدرات الأمة، من اللصوص الكبار والمرتشين والغاصبين فكيف الحال ساعتئذ؟. وقد رأى الناس منهم الويلات رأي العين!!.
أما قضية " رفض الوصاية على الآخرين " فإنها بدعة روجها العلمانيون والشيوعيون، ودعاة " الطاهوية " من الجمهوريين. . . لأن هؤلاء يريدون للمجتمع أن يكون بلا دعاة أو رعاة أو آباء مربين أو قوم صالحين، ولذا تركزت
(1) سورة النساء الآية 27