الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجاحظ والمبرد يدعو إلى اعتبار الحديث ما دام مستجمعا لشروط الصحة، غير أن تيان لم يبلغه ورود الكتاب عند هذين الإمامين من أئمة الحديث] (1).
(1) نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي ـ السلطة القضائية ـ ص 462.
د -
الطعن في المتن:
1 -
قالوا: إن فيه بعض الاصطلاحات الفقهية التي لم تكن معروفة في عصر عمر بن الخطاب، وإنما جدت فيما بعد عصر الصحابة مثل:" واعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور بعضها " إلخ. إذ كلمة " القياس " لم تستعمل في معنى الرأي في عصر الصحابة، وإنما كان استعمالها بعد ذلك.
نقل الدكتور علي حسن عبد القادر ما طعن به المستشرق جولدتسيهر ومتزوفلهوزن فقال: [شك بعض الباحثين المحدثين في هذه الرسالة، ورسالة شريح، وفي الرسائل التي جاءت بمعناها كوصية النبي لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن، واحتج بأن هذه الرسائل والوصايا تشتمل على اصطلاحات دقيقة تعتبر وليدة لعصر ما بعد الصحابة، وإذا سلمنا بأن هذه الرسائل والوصايا قد صدرت عن النبي وعن عمر حقا، فإنه من العسير أن نوفق بينها وبين مسلك أهل الحديث في كراهة الأخذ بالرأي والقياس، والتشديد في ذلك تشديدا بينا، ومن ثم فإنهم عمدوا إلى تضعيف هذه الروايات والتهوين من شأنها].
2 -
كما أن فيها بعض الآراء التي يخالفها عمر، مثل قوله:" والمسلمون عدول بعضهم على بعض " فقد روى مالك أن عمر قال: " لا يؤسر (1) المسلمون بغير العدول ". مما يدل على أنه لم يكتف بالإسلام في اعتبار العدالة، بل لا بد من تزكية ومعرفة بالصلاح والاستقامة وعدم
(1) يؤسر: أي يحبس، والمعنى لا يحكم عليه - قاله ابن الأثير في النهاية غريب الحديث والأثر جـ 1 ص 48.
الكذب والتزوير. يقول ابن حزم: [وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر رضي الله عنه منه قوله فيها: " والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب " وهم لا يقولون بهذا، يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم وشافعيهم ومالكيهم. وإن كان قول عمر - لو صح في تلك الرسالة - في القياس حجة فقوله في " أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد " حجة، وإن لم يكن قوله في ذلك حجة فليس قوله في القياس حجة لو صح، فكيف ولم يصح؟!](1).
1 -
أما قولهم: إن فيها بعض الاصطلاحات الفقهية التي لم تكن معروفة في عصر عمر، فهو قول غير مسلم بدليلين:
أ - ورود هذه الاصطلاحات في هذه الرسالة الثابتة نسبتها إلى عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -.
ب - ذكر أئمة اللغة هذه الرسالة في كتبهم مثل: الجاحظ في البيان والتبيين (2)، والمبرد في الكامل في اللغة والأدب (3)، وابن قتيبة في عيون الأخبار (4)، وهؤلاء الأئمة غايتهم في تأليف هذه الكتب جمع صور من بلاغة العرب في الشعر والنثر والخطب والرسائل، وهم من أعرف الناس بالنصوص، ومن أقدرهم على تمييز صحيحها من منحولها، وفصيحها من ركيكها، فلو اعترى كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أية شبهة في أسلوبه ولغته، واصطلاحاته مما يدل على أنه ليس من كلام البلغاء في صدر الإسلام لطرحوه، ولما ذكروه في كتبهم. قال ظافر القاسمي: [نرى في إثبات كل من الجاحظ والمبرد لنص الكتاب في كتابيهما دليلا على صحة الكتاب من الناحية
(1) المحلى جـ1 ص 77 ـ 78 الناشر مكتبة الجمهورية العربية سنة 1387 هـ.
(2)
جـ 2 ص 224.
(3)
جـ 1 ص 7.
(4)
جـ1 ص66.
اللغوية والأدبية، وإلى أنه متفق مع أساليب العصر الأول، ولا يخالف ما عهد كبار العلماء من أسلوب عمر بن الخطاب في الكتاب والخطاب] (1).
2 -
أما ما فيها من الآراء التي يخالفها عمر مثل تعديل المسلم؛ لأنه مسلم، وأن الأصل فيه العدالة، إلا من تعرضت عدالته للشك، وهو القاذف، والمتهم في ولائه، أو متهم في نسبه. مع أن الإمام مالكا رحمه الله روى أن عمر قال:" والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول". فالذي يظهر لي أنه لا تعارض بين قول عمر في الرسالة، وبين ما رواه مالك عن عمر رضي الله عنه إذ المعنى: أن المسلمين لا يؤسرون بشهادة غير العدول، والعدول يشترط فيهم الإسلام؛ إذ الأصل في المسلم العدالة ما لم تسلب منه بسبب القذف، أو تجريب الكذب عليه، أو الاتهام بتزوير ولائه لأحد غير مواليه، أو انتسابه لغير أهله، فيكون قوله:" لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول " تأكيدا لقوله الذي في الرسالة. إذ لا تعارض حتى يقال: إنه رجع عما رآه أولا، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس قال:«جاء أعرابي إلى النبي فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال: أتشهد أن لا اله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا (2)» .
وعلى فرض وجود التعارض بين ما في الرسالة من عدالة المسلم، وبين ما رواه الإمام مالك من اشتراط العدالة زيادة على الإسلام، فإن هذا غير كاف
(1) نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي - السلطة القضائية - ص 460.
(2)
رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة والحاكم - سنن الترمذي، جـ 3 ص 74، وسنن النسائي جـ4 ص 132، وسنن أبي داود جـ1 ص 547، وسنن ابن ماجة جـ 1 ص 529، والمستدرك جـ1 ص 424 وقال:[وهذا الحديث صحيح ولم يخرجاه] أ. هـ.
لنفي صحة الرسالة وردها، بل ليس دليلا أصلا؛ إذ يدل على تغير اجتهاد عمر في هذه المسألة، بل يؤيد صحة الرسالة؛ إذ قدوم هذا الرجل يشتكي إليه استغلال الناس لاعتبار أن الأول في المسلمين العدالة، مما يدل على أن عمر قد أمر بهذا أولا كما جاء في الرسالة، ثم رجع عن هذا الأصل، واعتبر العدالة شيئا آخر، فقد يكون مسلما لكنه غير عدل في الشهادة.
فرجوع عمر - إن صح - لا يطعن في صدور الرسالة منه، بل يحمل على تغير الاجتهاد، وهو شيء وإنكار الرسالة جميعها شيء آخر. فهو حين كتب الرسالة إلى أبي موسى الأشعري لم تكن شهادة الزور قد فشت، فاكتفي من الشاهد تحقق الإسلام فيه، فلما فشت شهادة الزور شدد فيما يشترط في هذا الشاهد.
يقول ابن فرحون بعد ذكر الرسالة: قال ابن سهل: وقول عمر رضي الله عنه في هذه الرسالة: " المؤمنون عدول بعضهم على بعض " رجع عمر رحمه الله عن ذلك بما رواه مالك في الموطأ، قال ربيعه: قدم رجل من أهل العراق على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: قد جئتك بأمر لا رأس له ولا ذنب، فقال له عمر وما هو؟ فقال: شهادات الزور ظهرت بأرضنا، فقال عمر رضي الله عنه:" والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول ". وهذا يدل على رجوعه عما في هذه الرسالة، ونحو ذلك نقله ابن عبد الحكم عن عمر رضي الله عنه، وذكر عن الحسن والليث بن سعد من التابعين الأخذ بما في هذه الرسالة في أمر الشهود، والأكثرون على خلافه بدليل قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1)، وقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2)(3).
كما أن مضمون العدالة في الآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4) غير محدود، فترك الله مقاييس هذه العدالة للناس في كل جيل بدليل قوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (5) وهذه المقاييس تتغير بتغير المكان والزمان والناس،
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2)
سورة البقرة الآية 282
(3)
تبصرة الحكام جـ 1 ص 28.
(4)
سورة الطلاق الآية 2
(5)
سورة البقرة الآية 282