الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأوجبت الآية الرد بعرض ما يشكل على نصوص الكتاب والسنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله، قال: فبسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله (2)» .
فالاجتهاد مطلب شرعي عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته وقد ذكر ابن القيم (3) طرفا من اجتهادات الصحابة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرهم عليها، والأحكام التي قاسوها على نظائرها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي هذا يقول:[فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله](4).
(1) سورة النساء الآية 59
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء جـ 2 ص 272 وابن حزم في كتاب إبطال القياس والرأي ص 14 وما بعدها يطعن في صحته.
(3)
في كتابه إعلام الموقعين جـ 1 ص 222 - 239.
(4)
إعلام الموقعين جـ 1 ص 238.
7 -
نقض القضاء:
قال عمر في رسالته لأبي موسى: " لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ".
روى ابن القيم بسنده، قال:[وعن عمر أنه لقي رجلا فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أدرك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أدرك إلى رأي، والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال علي وزيد](1).
وروي عن عمر أنه قضى في المشركة بإسقاط الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد ذلك، فسئل فقال: " تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم (2).
يقول ابن القيم: فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين (3).
والقاضي مقيد وملزم بالحكم بما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتخريج القضايا على نصوصها، إذ لم يكن في الحادثة نص صريح يشملها يقول الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (4).
وإذا لم يلتزم بهذا النهج فإن حكمه مردود، أما إذا كان ملتزما ولكن خفيت عليه بعض النصوص، أو اجتهد في فهم النصوص فلم يوفق فإن عليه الرجوع إلى الصواب الموافق لحكم الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا هو ما حدا بعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى الكتابة إلى أبي موسى بتبيين وجهة نظره في هذه المسألة.
ولقد فهم بعض العلماء - رحمهم الله تعالى - من كلام عمر الذي كتب به إلى
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص 68.
(2)
المغني لابن قدامة جـ 9 ص 57، وإعلام الموقعين جـ 1 ص 119 - 120.
(3)
إعلام الموقعين جـ 1 ص 120.
(4)
سورة المائدة الآية 49
أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في رسالة القضاء المشهورة أن القاضي ينقض جميع ما بان له خطؤه سواء أكان الحكم مبنيا على اجتهاد أم على نص صريح. قال ابن قدامة: [وحكي عن أبي ثور وداود أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه؛ لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى: " لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل"؛ ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع، وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه](1).
كما فهم بعض آخر من العلماء - رحمهم الله تعالى - من كلام عمر نفسه - أو نقول لقد جمع بين كلام عمر في هذه الرسالة وبين الروايات الأخرى عنه - على أنه لا ينقض ما حكم به، وإنما إذا ظهر له رأي آخر غير ما قضى به، فإنه يعمل به مستقبلا ولا يصر على الأول؛ لأنه قد فعل ذلك (2).
يقول ابن القيم في شرح كلام عمر: [يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى، فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته، فإن الاجتهاد قد يتغير، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعا من العمل بالثاني، إذا ظهر أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار؛ لأنه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول؛ لأنه قديم سبق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول](3).
والذي يترجح أن المسائل الاجتهادية إذا حكم فيها بحكم لا ينقضه، وإذا تجدد له اجتهاد آخر فإنه يحكم به في القضايا اللاحقة.
أما القضايا المنصوص عليها في الكتاب والسنة أو أجمع عليها فإنه إذا
(1) المغنى جـ 9 ص 56.
(2)
تأريخ القضاء في الإسلام لمحمود عرنوس ص 29.
(3)
إعلام الموقعين جـ 1 ص 119.