الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلم، ويطمئن إلى عدم إلحاق ضرر به منه، يقول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:«أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم (1)» .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهل اليوم والشهر والبلد، ولكنه سألهم سؤالا تقريريا ليمكن الجواب من نفوسهم، ويثبت ما سوف ينبني عليه من حكم، كما يقول بذلك البلاغيون. وكجزاء لعقاب تخويف المسلم. وزعزعة الأمن من نفسه، بالاعتداء عليه، جاء العقاب الشديد الذي جعله الله زاجرا لمن يقتل نفسا بغير حق فقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) إلى أن يقول سبحانه في عقاب العمد الذي أزال الاطمئنان من النفوس: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (3)(4).
(1) متفق عليه.
(2)
سورة النساء الآية 92
(3)
سورة النساء الآية 93
(4)
اقرأ الآيات 92، 93 من سورة النساء.
القصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع
وأنواع العقوبات المفروضة تطمئن المجتمع، وتزيل الحقد من النفوس، وتردع من تسول له نفسه الإقدام على أمر فيه جناية، وإخلال للمجتمع حيث يقول سبحانه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1).
فالقصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع والقضاء على الجريمة؛ لأنه يقضي على الفئات الفاسدة في المجتمع، حتى لا يتوسع نطاق عملها في أجزاء أخرى منه، حسبما نرى في المجتمعات الغربية، التي رأفت بالمجرم؛ لأنه في نظرهم يحتاج إلى الرعاية والعطف، فهو لم يرتكب الإجرام في نظر
(1) سورة البقرة الآية 179
المهتمين بأمره، إلا من مؤثرات تحيط به من صحية أو اجتماعية أو أسرية أو غيرها. . فماذا كانت النتيجة؟
إنها بالنسبة للمجتمع حسبما هو واقع الحال: خوف واضطراب، وقلق مستمر.
وبالنسبة للأفراد: انتهاك أعراض، وقتل أنفس بريئة، وتشويه بعمل إجرامي متعمد، وبالنسبة للأموال: نهب واعتداء وتسلط.
أما بالنسبة للمجرم نفسه: فسجن محدود، وغرامة مالية قليلة، ثم يخرج للمجتمع من جديد وبفن جديد في عالم الجريمة، وهكذا تستمر الحلقة، لكن شرع الله الذي شرع لعباده في القرآن الكريم، هو الذي يصلح المجتمعات، ويقضي على جذور الاعتداء، والاستخفاف بالنفوس، وإخافة الآمنين؛ لما فيه من جزاء رادع يقضي بتطبيقه على الشر؛ لأنه لا يصلح النفوس ويردها عن ذلك إلا هذا الأسلوب، قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} (2).
وهذا هو حكم الله الذي فيه طمأنينة المجتمع، وإخافة الفاعل، والردع عن التمادي في العمل الضار، قد أنزله سبحانه على بني إسرائيل في توراتهم، فخالفوا وعاندوا، وبذلوا، فكانت النتيجة جرائم متتالية، واضطرابات تزعزع النفوس، وسار على منوالهم النصارى فحل بهم ما لحق بسابقيهم، حسبما نلمسه اليوم في قوانينهم الوضعية من امتداد لذلك العمل؛ حيث تجنى الثمرات السيئة، فيما يطفح على الصحافة من أخبار، وما يبرز من تقارير الجريمة من أرقام.
(1) سورة المائدة الآية 45
(2)
سورة البقرة الآية 178
واختار الله هذه الأمة لتطبيق ذلك فأمن مجتمعهم، واطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم عند الامتثال، ثم دب القلق في بعض المجتمعات الإسلامية؛ لأن أقواما استبدلوا بحكم الله قانونا بشريا، وغيروا ما أراده الله، بما أخذوه عن غيرهم تقليدا، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولا شيء يؤمن المجتمع، ويحفظ الأمة، ويقضي على أسباب الخوف، إلا بتطبيق ما ارتضاه الله في شرعه، وأكده رسوله الكريم، بحماية الأفراد، والمحافظة على الجماعات؛ لأن الله بعباده رءوف رحيم.
حفظ الأموال من التعدي، والحقوق من التطاول، فالإسلام قد جعل لكل مال حرزه المعتاد حفظه فيه، فمن أخذ شيئا من حرزه اعتبر سارقا، والسارق أعطي جزاؤه بقطع يده، التي تطاولت على ما ليس لها، لضياع الأمانة في القلب، وضعف الإيمان في النفس، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).
فقطع اليد ليس عدوانا، أو بقصد التشويه للسارق أو السارقة، ولكنه جزاء لهما باستخفافهما بالأمن، وترويعهما الناس الآمنين، واعتدائهما على ما ليس لهما، وعدم احترامهما لشرع الله الذي يصون الحقوق، ويؤمن الناس بالمحافظة على الأنفس والأموال، من التعدي والتطاول بغير حق، ونكالا من الله لعدم الوقوف عند حدوده التي شرع لعباده؛ لأن التعدي استخفاف بذلك، والله عزيز في ملكه، حكيم في إرادته وتشريعه.
وقد يعتبر اللصوص بتنظيمهم وقدراتهم في إخافة الناس، وسطوهم هنا وهناك على ممتلكات الآخرين، فيقطعوا السبل، ويفسدوا في الأرض، ويعلنوها حربا على الله بامتهان شرعه، وتسلطا على المجتمع بقطع الطرق وإخافة الآمنين، والاعتداء على الأموال والأعراض، والإفساد في الأرض، حيث يضطرب ميزان العدل، وتتخلخل أركانه، فإذا نشأ شيء من ذلك في
(1) سورة المائدة الآية 38
مجتمع من المجتمعات أزعج السلطة، وضعف كيانها، وضاعت الحيلة لتهدئة المجتمع وإعادة الهدوء والأمن إليه، فيأتي شرع الله العزيز الحكيم، ليحل هذه المشكلة، فالله يقضي على هذه المعضلة، بحل قاطع حسبما يقول سبحانه:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3).
وقد قال الباحثون في أصول الجريمة، المهتمون بطمأنينة المجتمعات: إن الإسلام قد وضع قاعدة قوية في القضاء على الجريمة، في تحريمه الأمور التي تتسبب عنها، أو تدعو إليها: كالخمر والزنا والربا والميسر، ثم بوضعه قواعد تريح العاملين بها وفق منهج سليم يرضي النفوس، ويعطي كل ذي حق حقه، ويمنع التعدي، ثم يفرض جزاءات تجتث الشرور من المجتمع؛ لأن من فيه نزعة شر لا يرتاح إلا بإزعاج الآخرين، ومثل هؤلاء كالجرثومة التي لا بد أن تكافح، أو كالعضو الفاسد لا بد من بتره، وإلا استشرى الداء في الجسد كله.
وإن من تمعن في مدلول الآيات الكريمة الآنفة الذكر، يدرك منهج الإسلام الصارم في القضاء على الأمور التي يترتب عليها إخلال بالأمن، وإزعاج للبشر، وإضرار بالأمة. ومعلوم كما يقول علماء الاقتصاد: بأن رأس المال جبان لا يطمئن إلا بالأمان، ولا يتحرك وينمو إلا مع الأمن الوطني، والقضاء على مثيري القلاقل الآخذين بجهد الآخرين، المخيفين للسبيل، وذلك بسلطة تجازيهم في الدنيا، وتقطع دابرهم من المجتمع، وعمل هذه السلطة يدعمه تشريع قوي، ولا أقوى من حكم الله ورسوله، وتطبيقهما يخيف من تسول له نفسه العمل بمثل عملهم.
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
سورة المائدة الآية 34
(3)
سورة المائدة الآية 35