الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجلسه، مائلا إليهم مقتصرا عن أهل الدنيا، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس، وكان لا يمد قدمه في المجلس ويكرم جليسه، وكان حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، وكان يحب في الله ويبغض في الله، وكان إذا أحب رجلا أحب له ما يحب لنفسه، وكره له ما يكره لنفسه ولم يمنعه حبه إياه أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم وإثم أو مكروه إن كان منه، وكان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة. وأحب أن يعرف أحواله، وكان رجلا فطنا. إذا كان الشيء لا يرضاه اضطرب لذلك، ويغضب لله ولا يغضب لنفسه فلا ينتصر لها، فإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه حتى كأنه ليس هو، لا تأخذه في الله لومه لائم، وكان حسن الجوار، يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار انتهى.
هذه أخلاق الإمام أحمد. علم وعمل وتواضع وصبر واحتمال، وجدير بمن تربى على الكتاب والسنة وتتلمذ على العلماء العاملين وخالط الصالحين أن يكون كذلك، بخلاف من يتربى على نظريات الفلاسفة وأفكار الغرب فإنه سيتأثر بها ويتخلق بها، فيجب على المسلمين أن يوجهوا أولادهم إلى الكتاب والسنة وأخلاق السلف الصالح ليتربوا التربية الصحيحة، ويتجهوا الوجهة السليمة، ويزكوا استيراد النظريات التربوية من الكفار وفلاسفة الغرب.
5 -
محنته وصلابته في الحق:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (1) باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حبنل / في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم. وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم من ذلك إليه، وصبره عليه، وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة
(1) البداية والنهاية الصفحات 374، 376، 378، 379.
والأخبار المأثورة. وبلغه بما أوصي به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا - وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، ثم قال ابن كثير رحمه الله: قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الله عز وجل قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك، وزينوا له واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد - إسحاق بن إبراهيم بن مصعب - يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين، فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك. وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد - فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال فجثا الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته، قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ونالني منهم أذى كثير، وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه أحمد - فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا وقيل نيفا وثلاثين شهرا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم، وكان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه، ولما أحضره
المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها - فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود. وليس معي أحد يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق علي، وليس عندي سراج فأردت الوضوء، فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء، فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد - ثم دعيت فأدخلت على المعتصم.
وذكر ابن كثير رحمه الله المناظرة التي دارت بينه وبين خصومه بحضرة المعتصم في موضوع خلق القرآن - إلى أن قال: ثم لم يزالوا يقولون له يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمرني فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين، فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط، فجعل أحدهم يضربني سوطين- ويقول له - يعني المعتصم - شد قطع الله يدك - ويجئ الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطا فأغمي علي وذهب عقلي مرارا - فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي - وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه - وجعلوا يقولون ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل. فأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا، وقيل ثمانين سوطا، ولكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا، ولما رجع إلى منزله جاء الجرائحي فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد. - وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة وكان يتلو في ذلك قوله تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} (1) الآية ويقول ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، انتهى باختصار.
وهكذا ثبت الإمام أحمد رحمه الله على الحق، وصبر على السجن والضرب ولم
(1) سورة النور الآية 22