الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وأجمعت الأمة أن الرد والتحاكم بعده يكون إلى سنته، ففي هذه الآيات أعظم برهان على تحريم مخالفته، ومنع الاستبدال بسنته، فانظر كيف حذر الذين يخالفون عن أمره بالفتنة وهي الشرك أو الزيغ، وبالعذاب الأليم، وكيف أقسم على نفي الإيمان عنهم حتى يحكموه في كل نزاع يحدث بينهم، ويسلموا لقضائه، ولا يبقى في نفوسهم أي حرج أو تعنت مما قضي به بينهم، وكفى ذلك وعيدا وتهديدا لمن ترك سنته بعد معرفة حكمها تهاونا واستخفافا، واعتاض عنها بالعادات والآراء والقوانين الوضعية ونحوها.
(1) سورة النساء الآية 59
(2)
سورة النور الآية 63
(3)
سورة النساء الآية 65
الأمر السابع:
الاقتصاد والتوسط في حقه صلى الله عليه وسلم
-:
جرت سنة الله في خلقه بوقوع الإفراط أو التفريط، وأن كل أمة يقع منهم في الغالب غلو أو تقصير، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته المتبعين له من الغلو في حقه وإعطائه شيئا من خالص حق الله تعالى، ويتبين ذلك بما يأتي.
1 -
أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن كونه بشرا، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (1) فبين أنه اختص بالوحي إليه فقط، وقال تعالى:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (2) وذلك لما طلب منه المشركون أن يفجر الأرض أو يسقط السماء عليهم. . الخ، فبين لهم أن الذي يملك ذلك هو ربه وحده، فأما هو فإنما تميز بالرسالة
(1) سورة الكهف الآية 110
(2)
سورة الإسراء الآية 93
التي حمله الله إياها، وقد حكى الله عن الأمم السابقة طعنهم في رسالة الرسل بأنهم بمثر، كما في قوله تعالى عن قوم هود أو صالح:{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (1){وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (2) وحكى عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (3) أي يسعى للتكسب وطلب الرزق، فأجاب عن ذلك بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (4) أي ليسوا ملائكة فإن البشر لا يتمكنون عادة من رؤية الملائكة بل لو أرسل الله ملكا لما تمكنوا من مشاهدته حتى يتمثل في صورة إنسان فيقع الاشتباه، قال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (5) ولما وقع منه صلى الله عليه وسلم السهو في الصلاة ولم يذكروه ظنا منهم أن الصلاة قد قصرت فقال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني (6)» متفق عليه ومتى كان الرسل بشرا فلا يناسب إعطاءهم شيئا من حق الله من صفة أو عمل.
2 -
أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما يخبر بما أخبره الله به وأوحاه إليه، قال الله تعالى:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (7) وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (8) وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (9)
(1) سورة المؤمنون الآية 33
(2)
سورة المؤمنون الآية 34
(3)
سورة الفرقان الآية 7
(4)
سورة الفرقان الآية 20
(5)
سورة الأنعام الآية 9
(6)
هو في صحيح البخاري برقم 401 ومسلم 5/ 61 عن ابن مسعود.
(7)
سورة الأنعام الآية 50
(8)
سورة الأحقاف الآية 9
(9)
سورة الأعراف الآية 188
فالغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وإنما يظهر بعض خلقه على شيء من ذلك كمعجزة وبرهان على صدقه كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1){إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (2) أي أنه تعالى يطلع من ارتضاه وهم رسله على أمور من الغيب مما سبق أو مما يأتي، ولا ينافي ذلك قوله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (3) فإن ما وقع من الإخبار في الأحاديث عن الأمور المستقبلة هو من الوحي الذي اطلع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الرسول الملكي، أو بما فتح الله عليه وألهمه، ومتى كان هذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل، لم يصلح أن يصرف لهم شيء من حق الله الذي هو عبادته وحده، ولا أن يوصفوا بما اختص به الرب تعالى، فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على الجاريتين اللتين عند الربيع بنت مسعود قولهما: وفينا نبي يعلم ما في غد، رواه الترمذي (4) وقالت عائشة رضي الله عنه: من حدثك أن محمدا يعلم ما في غد فلا تصدقه رواه البخاري (5) وورد في «حديث جبريل عليه السلام لما سأل عن الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أماراتها إذا ولدت الأمة ربها، وإذا رأيت الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان، وفي خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ (7)» متفق عليه وهذه الخمس يعني مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (8) فمن ادعى العلم بشيء منها أو نسبه إلى بشر فهو كاذب.
(1) سورة الجن الآية 26
(2)
سورة الجن الآية 27
(3)
سورة النمل الآية 65
(4)
هو في سنن الترمذي مع تحفه الأحوذي 4/ 211 وصححه.
(5)
هو في صحيح البخاري مع الشرح برقم 4855.
(6)
هو في صحيح البخاري برقم 50 وصحيح مسلم 1/ 161.
(7)
سورة لقمان الآية 34 (6){إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
(8)
سورة الأنعام الآية 59
3 -
أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك الضر ولا النفع لنفسه فضلا عن غيره، قال الله تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (2) وما ذاك إلا أن الملك لله وحده، فهو الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع، وهو مالك الملك، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، أما الخلق كلهم بما فيهم الأنبياء فإنهم مملوكون، يعمهم قول الله تعالى:{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (3) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد هذه الآية: نفي الله عما سواه كلما يتعلق به المشركون، فنفي أن يكون لغيه ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله. . الخ وقد قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (4) وذلك حين أن شج النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد وكسرت رباعيته، فقال:«كيف يفلح قوم شجوا نبيهم (5)» أو كان ذلك لما قنت عليه الصلاة والسلام يدعو على بعض المشركين بمكة، فأنكر الله عليه، وأخبره بأن الأمر كله لله وحده ليس لك منه شيء (6) وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أنذر عشيرته وأقاربه وقال لهم:«أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا (7)» حتى قال ذلك لعمه وعمته وابنته، وفي رواية «اشتروا أنفسكم (8)» أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر، فإن في ذلك إنقاذ من النار، دون الاعتماد على النسب والقرابة، فدفع بذلك ما يتوهمه بعضهم من أنه يغنى عن أقاربه ويشفع لهم، وهذا الوهم قد سرى وتمكن في نفوس الجمع الغفير، فتراهم يعتمدون على مجرد الانتساب إلى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ويعدونه شرفا، ظانين أن النجاة والشفاعة تحصل لهم بدون عمل، بل
(1) سورة الأعراف الآية 188
(2)
سورة الجن الآية 21
(3)
سورة سبأ الآية 22
(4)
سورة آل عمران الآية 128
(5)
رواه مسلم 149/ 12 وغيره عن أنس.
(6)
رواه البخاري برقم 4069 وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه.
(7)
صحيح البخاري الوصايا (2753)، صحيح مسلم الإيمان (204)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3185)، سنن النسائي الوصايا (3644)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 361)، سنن الدارمي الرقاق (2732).
(8)
رواه البخاري برقم 4771 ومسلم 3/ 79.
إنهم يخالفون سنته، ويعصون الله ورسوله علنا، كما أن هناك آخرون يتعلقون بحبه المزعوم دون اتباعه وطاعته، ويعتقدون أنه يشفع لهم بمجرد تلك المحبة الوهمية، رغم مخالفة مدلول المحبة من تقليده والسير على نهجه، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يدفع الضر والعذاب عن نفسه لو عصاه كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (1) فكيف بغيره من قريب أو بعيد، وقد بين عليه الصلاة والسلام لأقاربه أنه لا ينجيهم من عذاب الله ولا يدخلهم الجنة ولا يقربهم إلى الله، وإنما أعمالهم هي التي تنقذهم من النار. وثبت في الصحيح «أنه صلى الله عليه وسلم حاول هداية عمه أبي طالب فلم يقدر على ذلك، فلما حضرته الوفاة جاءه فقال له: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله فلقنه جلساء السوء الحجة الشيطانية، فكان آخر كلامه: هو على ملة عبد المطلب (2)» . ونزل في ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) ففي هذه القصة أعظم ما يبطل شبهة المشركين الذين يغلون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه تفريج الكروب، وغفران الذنوب، ويهتفون باسمه عند الشدائد بقولهم:" يا رسول الله ". ونحو ذلك، فإذا كان هو عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق وأقربهم من الله، وأعظمهم عنده جاها، ومع ذلك حرص على هداية عمه أبي طالب في حياته وعند وفاته فلم يستطع ذلك، لأن الله تعالى كتب عليه الشقاء، وقد عزم على الاستغفار له. فنهاه الله عن ذلك بقوله. {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (4) ففي ذلك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعا ولا يدفع عنه ضرا، ولو دعاه ورجاه وهتف باسمه، ولو زعم أنه يحبه حبا شديدا، فلو كان عند
(1) سورة الجن الآية 22
(2)
صحيح البخاري المناقب (3884)، صحيح مسلم الإيمان (24)، سنن النسائي الجنائز (2035)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 433).
(3)
سورة القصص الآية 56
(4)
سورة التوبة الآية 113
النبي صلى الله عليه وسلم شيء من هداية القلوب أو تفريج الكربات، لكان أولى الناس بذلك عمه الكبير الذي كفله وحماه، وحال بينه وبين أذى المشركين، فإذا لم يقدر على هدايته ونجاته فغيره بطريق الأولى.
4 -
عبوديته صلى الله عليه وسلم شرف وفضيلة، فقد ثبت في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله (1)» يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله على هذا الحديث في شرح التوحيد ص 272: قوله «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (2)» أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد الله، فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا عبد الله ورسوله، فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستعان به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله أن في ذلك هضما لجنابه، وغضا من قدره، فرفعوه فوق منزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب. وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب " الاستغاثة " عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا. وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول: " إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل إلى ذرية الحسن، إلى أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع، ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (3) إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبح بكرة وأصيلا، ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله. فيجعلون الرسول
(1) رواه البخاري برقم 3445.
(2)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56).
(3)
سورة الأحزاب الآية 42
معبودا. قلت: وقال البوصيري:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لا بد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيفوا بنور العلم، ولم يلجوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح، وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا، من تقديم محبته على النفس والوالد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران: أحدهما تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى «قال له رجل:" ما شاء الله وشئت ". قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده (1)» رواه أحمد (2) ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك، ونهى أن يصلي إلى القبر أو يتخذه مسجدا أو عيدا، أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضى بحكمه والانقياد له والتسليم، والإعراض عما خالفه، وعدم الالتفات إلى ما خالفه، حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله، المردود ما خالفه كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخلوق المستغاث به، المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب الذي من جوده الدنيا والآخرة الذي خلق الخلق وحده، ورزقهم وحده، ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل، ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره
(1) سنن ابن ماجه الكفارات (2117)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 214).
(2)
كما في المسند1/ 214، 282 عن ابن عباس وصححه المحقق.
من الأمر شيء كائنا من كان، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا جبريل عليه السلام ولا غيرهما، فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، والذي هو لازم إيمانه وملزومه. وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير، كما فعل عباد القبور، فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية. وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه. وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضى بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله، فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم قبله، وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفي به شهيدا وملائكته ورسله وأولياؤه، أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، والله المستعان. هذا كلام الشيخ رحمه الله وقد حكى ما شاهده في زمانه وقبله من أقوام جهلة بالتوحيد ادعوا محبة النبي صلى الله عليه وسلم فبالغوا في مدحه حتى وصفوه بها لا يستحقه إلا الله تعالى من الملك والعلم والتصرف، وحتى صرفوا له خالص حق الله عز وجل من الدعاء والرجاء وتفويض الأمور إليه والاعتماد عليه، وقد ذكر رحمه الله في شرح التوحيد ص186 وما بعدها بعض ما قال أهل الغلو والإطراء في حقه صلى الله عليه وسلم وأورد أبياتا من قصيدة البردة للبوصيري كقوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعده من الأبيات، ثم بين ما فيها من الشرك الصريح، وذكر أيضا بعضا من شعر البرعي الذي بالغ فيه وغلا، ووقع في عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم صريحا، ونسى ربه عز وجل وهكذا ذكر النعمى في (معارج الألباب) ص 169 وما بعدها بعض أقوال الغلاة ومبالغتهم في التعلق بالأموات، ومن ذلك أبيات شعر تتضمن الشرك الواضح بالنبي صلى الله عليه وسلم وأولها قوله:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي
…
يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
أنت الملاذ لما أخشى ضرورته
…
وأنت لي ملجأ من حادث الدهر
إلى آخر تلك الأبيات الشركية، وعلق عليها رحمه الله يقول: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة، من كيفية مطلب، أو تحصيل مأرب، وماذا أبقى هذا المشرك الخبيث من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون كل ما عبدوه من دون الله لشيء من هذا ولا لما هو أقل منه. ا. هـ.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف على أمته من هذا الغلو ويحذرهم من أسبابه، فقد روي أبو داود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال:«انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال السيد الله تبارك وتعالى قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم (1)» وعن أنس رضي الله عنه «أن أناسا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل (2)» . رواه النسائي بسند جيد، (3) وهذا كثير في السنة كقوله صلى الله عليه وسلم:«إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله» رواه الطبراني (4) وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم «قال له رجل: " ما شاء الله وشئت " فقال: أجعلتني لله مثلا ما شاء الله وحده (5)» فالنبي صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق وأفضلهم وخيرهم، لكنه يكره المدح سيما أمام الممدوح، حتى قال:«إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب (6)» رواه مسلم (7)، وما ذاك إلا أن المدح قد يوقع الممدوح في الإعجاب والكبرياء التي تحبط الأعمال أو تنافي كمال التوحيد، وقد افتخر عليه الصلاة والسلام بالعبودية لربه وهي الذل والتواضع له، وذلك شرف وفضيلة، ولذلك ذكره الله باسم العبد في قوله تعالى:
(1) هو في سنن أبي داود برقم 4806.
(2)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 241).
(3)
هو في عمل اليوم والليلة برقم 249 وكذا رواه أحمد 3/ 249 وغيره.
(4)
ذكره في مجمع الزوائد 10/ 159 قال: ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث.
(5)
سبق أنه عند أحمد في المسند 214/ 1.
(6)
صحيح مسلم الزهد والرقائق (3002)، سنن الترمذي الزهد (2393)، سنن أبو داود الأدب (4804)، سنن ابن ماجه الأدب (3742)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 5).
(7)
هو في صحيحه 128/ 18 عن المقداد رضي الله عنه.
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (1) وفي قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (2) وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (3) وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (4) فإن العبودية لله تعالى تقتضي غاية الذل وغاية المحبة، فالتذلل لله تعالى يستدعي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن يرى نفسه حقيرا ذميما مقصرا في واجبه، فيرجع إلى نفسه بالمعاتبة، ويعترف لربه بالفضل والإنعام، وكذلك الحب يستدعى محبة ما يحبه الله وكراهية ما يكرهه من الأقوال والأفعال والإرادات، فظهر بذلك كمال صفة العبودية لرب الأرباب.
5 -
موته صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء والرسل، قال الله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (5) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (6){كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (7) ثم إن المسلمين يدينون جميعا بأن الأنبياء قبله قديما قد ماتوا، وانقضت أعمارهم التي كتب الله لهم في الدنيا، وأصبحوا في عالم البرزخ، وحيث ورد في النصوص ما يقتضي حياة الشهداء كقوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (8) فإن الأنبياء أولى بهذه الحياة، ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا، وقد قست أموالهم بين الورثة، وحلت نساؤهم لغيرهم، فكان ذلك أوضح دليل على موتهم، ولكن الله تعالى نهى أن نقول لهم أموات في قوله عز وجل:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (9)
(1) سورة البقرة الآية 23
(2)
سورة الإسراء الآية 1
(3)
سورة الكهف الآية 1
(4)
سورة الجن الآية 19
(5)
سورة الزمر الآية 30
(6)
سورة الأنبياء الآية 34
(7)
سورة الأنبياء الآية 35
(8)
سورة آل عمران الآية 169
(9)
سورة البقرة الآية 154
وهذه الحياة لا نعلم كيفيتها إلا أنا نتحقق أن أرواحهم خرجت من أبدانهم، وأن أعمارهم انقضت، وأعمالهم قد ختمت، وقد فسرت حياتهم في الحديث الصحيح بأن أرواحهم جعلت في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة (1) وهذا يحقق أنها قد فارقت أبدانهم، وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة، ومعلوم أن الأنبياء والرسل أولى بهذه الحياة، وبكل حال فإنها لا تمكنهم من إجابة من دعاهم، أو إعطاء من سألهم، فنحن نعتقد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، وقد تميز بحماية جسده عن البلى، كما ثبت في سنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله كيف تعرض عليك وقد أرمت. قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء (2)» وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جسده، ورفعت إلى الرفيق الأعلى، كما كان ذلك آخر طلبه من الدنيا، وكذا قد ورد في الحديث عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام (3)» رواه أبو داود (4) وفي كيفية هذا الرد خلاف والله أعلم بذلك، وقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (5)» وروى الحافظ الضياء في المختارة وغيره عن علي بن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إلا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم (6)»
(1) هو في صحيح مسلم 13/ 30 عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
كما في سنن أبي داود برقم 1047.
(3)
سنن أبو داود المناسك (2041)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 527).
(4)
هو في سنن أبي داود برقم 2041.
(5)
هو في سنن أبي داود أيضا برقم 2042.
(6)
ذكره الهيثمي في الزوائد 3/ 4 وعزاه لأبي يعلى ووثقه رجاله.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم عند القبر فناداني فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (1)» فهذه الآثار تدل على شهرة ذلك عند السلف، وحرصهم على حفظ هذه السنة وتبليغها، ومعنى قوله:«لا تجعلوا بيوتكم قبورا (2)» أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور التي لا تجوز الصلاة عندها، والمراد صلاة التطوع «ولا تتخذوا قبري عيدا (3)» نهى صلى الله عليه وسلم من زيارة قبره على وجه مخصوص واجتماع معهود، بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر الاجتماع فيه في زمن محدد، ويحصل به فرح واغتباط يعود ويتكرر كل عام مرة ومرارا، ثم أخبرنا بأن صلاتنا تبلغه أين ما كنا، يعني أن ما يناله من الصلاة والسلام حاصل مع القرب والبعد، فلا مزية لمن صلى عليه أو سلم عند القبر، وهذا معنى قول الحسن بن الحسن (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) ومن قصد القبر للسلام فقط، ولم يكن قصده المسجد، فقد اتخذه عيدا، كما فهم ذلك الحسن بن الحسن رضي الله عنه وقد كره الإمام مالك رحمه الله لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد يأتي القبر النبوي؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال:(ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)(4) وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وكذا كبار التابعين يصلون في المسجد النبوي خلف الخلفاء الراشدين أغلب الأوقات، ثم ينصرفون بعد السلام أو يجلسون في قراءة أو عبادة، ولم يحفظ عنهم الإتيان إلى القبر بعد كل صلاة، بل يكتفون بالصلاة والسلام عليه في التشهد، وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك، رغم تمكنهم من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها قبل بناء الحيطان دونه بعد أن أدخل في توسعة
(1) ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في اقتضاء الصراط المستقيم 322 وساقه بإسناده.
(2)
سنن أبو داود المناسك (2042)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 367).
(3)
سنن أبو داود المناسك (2042)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 367).
(4)
ذكره شيخ الإسلام في الاقتضاء 366، 394 بنحو.
المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك، وبكل حال فإن الصحابة لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم عليه ثم ينصرف، كما نقل ذلك عن ابن عمر، ولم يحفظ عن غيره من الصحابة، ولم يكن يفعله دائما، فتكرار ذلك كل وقت بدعة ووسيلة إلى تعظيمه أو دعائه مع الله، وقد اتفق الأئمة رحمهم الله أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، وإنما يستقبل القبلة التي هي أفضل الجهات وأرجى لقبول الدعاء، وأما الحكاية عن مالك أنه قال للمنصور: ولم تصرف وجهك عنه. . . بل استقبله واستشفع به. . الخ فهي حكاية موضوعة مكذوبة عليه، كما حقق ذلك العلماء رحمهم الله (1).
6 -
منع السفر لمجرد زيارة القبر النبوي، ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (2)» ومعنى ذلك النهي عن السفر إلى بقعة أو موضع لقصد التعبد فيه، لاعتقاد أن العمل فيه مضاعف أو له مزية على غيره من المواضع، فدخل في ذلك منع السفر لزيارة القبور ولو قبور الأنبياء، فإنه من اتخاذها أعيادا، والاعتقاد في المقبورين بما يكون وسيلة إلى عبادتهم مع الله تعالى، كما هو الواقع من المشركين في هذا الزمان وقبله، حيث ينشئون الأسفار الطويلة إلى قبور الأولياء كما زعموا، أو يتجشمون المشقات، وينفقون الأموال الطائلة، ومتى وصلوا إلى تلك المشاهد كما أسموها حطوا رحالهم، وأخذوا في الهتاف والنداء لا أولئك الأموات، وعملوا هناك مالا يصلح إلا لله رب العالمين، من الطواف بتلك الأضرحة والتمسح بترابها، والدعاء لأربابها، والذبح والنحر لها ونحو ذلك، فهذا ما خافه عليه الصلاة والسلام من منعه شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، وقد كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة ذكر فيها اختلاف العلماء في حكم شد الرحال لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ورجح المنع، وذكر أنه قول ابن بطة وأبي الوفاء ابن عقيل، والجوينى والقاضي
(1) ذكر ذلك شيخ الإسلام أيضا في الاقتضاء ص 395 وغيره.
(2)
رواه البخاري عن أبي هريرة برقم 189/ 1 وعر أبي سعيد برقم 1197.