الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم استحالة النجس إلى طاهر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
بناء على ما تقرر في الدورة الثانية لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول سنة 1396 هـ من إعداد بحث في حكم استعمال المياه المتنجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على تمهيد في بيان معنى الاستحالة، وإيضاح هذا المعنى بكلام أهل العلم في حكم استحالة النجس إلى طاهر بالإحراق أو غيره، وهل تطهر الخمر بالاستحالة، ثم بيان كلام أهل العلم في حكم استعمال المياه المتنجسة بعد استحالتها، وزوال أعراض النجاسة عنها. وبالله التوفيق.
أولا التمهيد:
(أ) معنى الاستحالة لغة:
جاء في معنى حال: كل شيء تغير عن الاستواء إلى العوج فقد حال في معنى واستحال وهو مستحيل (1) ومعناها اصطلاحا انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى (2)
(1) لسان العرب / 14/ 197.
(2)
رد المختار ـ1ـ291ـ والفتاوى الهنديةـ 1ـ44.
(ب)
استحالة النجس إلى حقيقة أخرى بالإحراق أو غيره هل تكسب الطهارة:
اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب قوم إلى القول بالطهارة، وممن قال بذلك أبو حنيفة، ومحمد، وأكثر الحنفية والمالكية، وسواء عندهم ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه. ووافقهم الشافعية في النجس لمعنى فيه كجلد الميتة، وأما
الحنابلة فمنهم من يقول بالطهارة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية، وفيما يلي ذكر نصوصهم في ذلك، وأدلتهم مع المناقشة. جاء في البحر الرائق: من الأمور التي يكون بها التطهير انقلاب العين - ومضى إلى أن قال - وإن كان في غيره - أي الخمر - كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل، والسرجين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد (1).
وقال أيضا وضم إلى محمد أبا حنيفة في المحيط وكثيرا من المشائخ اختاروا قول محمد، وفي الخلاصة وعليه الفتوى وفي فتح القدير أنه المختار (2).
والمالكية يذهبون إلى أن ما استحال إلى صلاح فهو طاهر وإن ما استحال إلى فساد كان نجسا جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه من الطاهر لبن الآدمي ولو كافرا لاستحالته إلى الصلاح (3).
ثم جاء في موضع آخر، إذا تغير القيء وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة كان نجسا، وعلة نجاسته الاستحالة إلى فساد فإن لم يتغير كان طاهرا (4).
واعتبر المالكية كذلك أن المسك طاهر، ففي الخطاب الحكم بطهارة المسك؛ لأنها استحالة عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفات، وإلى اسم يختص به، وطهرت بذلك كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذى به الحيوان من النجاسات إلى اللحم فيكون طاهرا. انتهى (5).
وفرق الشافعية بين ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه، فأما الأشياء النجسة لمعنى فيها فإنها طاهرة قال في المهذب " ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما: جلد الميتة إذا دبغ، والثاني: الخمر " (6).
(1) البحر الرائق ص 1 - 239.
(2)
البحر الرائق ص 1 - 239.
(3)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ص 50.
(4)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي - 1 - 57
(5)
مواهب الجليل -1 - 97.
(6)
المذهب - 1 - 48.
وقال ابن قدامة: ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة (1) وقال المرداوي: وعنه بل تطهر وهي مخرجة من الخمرة إذا انقلبت بنفسها، خرجها المجد، واختار الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق فحيوان متولد من نجاسة كدود الجروح والقروح وصراصير الكنيف طاهر نص عليه (2) انتهى المقصود.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحا من الملاحة، أو صارت رمادا، أو صارت الميتة والدم والصديد ترابا كتراب المقبرة، فهذا فيه خلاف - وبعد ذكره للخلاف قال: والصواب أن ذلك كله طاهر إذ لم يبق شيء من النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها (3).
وقال ابن حزم: إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر فليس هو ذلك النجس ولا ذلك الحرام، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر (4).
وقال أيضا إذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا فكل ذلك طاهر (5). واستدل لذلك بالكتاب والسنة والاستقراء والمعنى وأما الكتاب فقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (6) وجه الدلالة أن هذه الأشياء بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها، صارت طيبة فهي طاهرة، وقد يعارض ذلك بأن القول بأنها طيبة وهو محل النزاع، ولا يصح الاستدلال بمحل الخلاف، وقد يجاب عن ذلك بأن العبرة بالواقع لا بالدعوى، وواقعها أنها طيبة، فيسلم الدليل، وأما السنة فما ورد من الأدلة في طهارة المسك وجلود الميتة مأكولة اللحم بعد الدبغ ونحو ذلك في الأدلة.
وأما الاستقراء فقد ذكره شيخ الإسلام فقال بعد كلام سبق - الاستقراء دلنا
(1) المغني ومعه الشرح - 1 - 59.
(2)
الإنصاف - 1 - 5 - 31 وما بعد.
(3)
مجموع الفتاوى 21 - 481 وما بعدها.
(4)
المحلى 1 - 138.
(5)
المحلى 1 - 128 ويرجع أيضا إلى 1 - 137 - 138 و - 1 - 118 و - 1 - 162 من المحلى.
(6)
سورة الأعراف الآية 157
أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس، مثل جعل الخمر خلا، والدم منيا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيبا، وكذلك بيضها ولبنها، والزرع المستسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجس، ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه، فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض، فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقا بعد خلق، ولا التفات إلى مواردها وعناصرها، وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان كإحراق الروث حتى يصير رمادا، ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحا، ففيه خلاف مشهور، وللقول بالنظير اتجاه. انتهى المقصود (1).
وقد سبق أنه يختار القول بالطهارة. وأما المعنى فقد جاء في فتح القدير أن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف بالكل، فإن الملح غير العظم واللحم، فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح عليه (2) انتهى المقصود.
القول الثاني: إن استحالة النجس، وزوال أعراض النجاسة عنه، وتبدلها بأوصاف طيبة لا تصيره طاهرا، وممن قال بهذا القول أبو يوسف، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو قول الشافعي فيما كان نجسا نجاسة عينية. وإحدى الروايتين في مذهب أحمد وهي المقدمة. جاء في فتح القدير أن أبا يوسف يرى أن الأشياء النجسة لا تطهر بانقلاب عينها، وفي التجنيس اختار قول أبي يوسف كذا قال: خشبة أصابها بول فاحترقت، ووقع رمادها في بئر يفسد الماء، وكذلك رماد العذرة والحمار إذا مات في مملحة لا يؤكل الملح هذا كله قول أبي يوسف (3) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أحد قولي أصحاب مالك (4).
(1) الفتاوى المصرية / 2/ 122.
(2)
البحر الرائق / 1/ 239 وقد بسط ذلك ابن حزم في المحلى / 137 ـ138 و1/ 122 منه و1/ 118 منه أيضا.
(3)
فتح القدير / 1/ 139.
(4)
مجموع الفتاوى 21/ 72.