الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلة الحضارة ما لم يرتفع بفكره إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. . وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر التاريخ. فلنعلن للدنيا بدء فجر جديد لحضارة القيم تتآلف فيه أسس التطور المبني على العلم والإيمان وتقدير الإنسانية، لننفك من التيه المقفر الذي يعيش العالم المعاصر أسيرا له. . تظللنا العقيدة ويغمرنا الإيمان (1).
كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2).
(1) محمود محمد سفر الحضارة. . تحد! ط 1، 1400 هـ، الناشر تهامة، ص 40.
(2)
سورة يوسف الآية 108
واقع التعليم في العالم الإسلامي والعربي:
يواجه العالم الإسلامي اليوم تحديا متصلا من الدول الصناعية، وذلك لطبيعة الموقع الاستراتيجي للعالم الإسلامي إلى ثروته البشرية والمادية. لقد أصبح حزام الدول الإسلامية ميدانا للتنافس المتصاعد بين القوى العديدة. إن نزاعات الحدود في المناطق المختلفة أصبحت غالبا موجهة لإيجاد أسواق حاضرة للأسلحة والذخائر لكي تبقى هذه الدول مرتبطة ومنشغلة عن دفع عجلة تقدمها أو رفع معدل نموها، بحيث تظل تحت الخضوع الدائم والتأثير المستمر الواقع عليها من الدول المتقدمة، فضلا عن ذلك فقد ترك المستعمر خلفه في كثير من الدول الإسلامية نماذج من المؤسسات التعليمية التي تتسم بالثنائية والانقسام الحاد (1).
إن غالبية النظام التعليمي السائد حاليا في العالم الإسلامي نظام متوارث من عهود الاستعمار، إنه غير كفء لبعث الشباب المسلم أو لمساعدته في حل مشاكل
(1) م - أ - قاضى - أسلمة المعارف العلمية الحديثة، مجلة المسلم المعاصر، العدد 35 ص 35، 1403 هـ.
الأمة الإسلامية لقد أثبت - حقيقة - أن له إنتاجية مضادة ويحتاج إلى إصلاح جذري عنيف (1).
ولعل المشكلة العظمى التي نواجهها هي تسليم الكثير، صراحة أو ضمنا، بأن المسلمين لكي يسايروا الرقي العالمي ويلحقوا بعجلة التقدم، فإنه لا بد أن يأخذوا بالمنهج الاجتماعي والاقتصادي الذي أفرزته الأمم التي سبقتهم على هذا الطريق، سواء في الغرب أو في الشرق، وإن تقليد هذه المدنيات هو السبيل إلى الخروج من مظاهر التخلف واللحاق بالأمم المتقدمة.
" إن نظم التعليم في البلاد الإسلامية اليوم نظم تقوم على الازدواج التعليمي، بمعنى أن بكل بلد منها نظامين للتعليم، لا نظاما واحدا، فهنالك نظام يتخذ من الدين الإسلامي محورا له، سواء سمي هذا النظام بالنظام الديني أو النظام القديم، وهناك نظام ثان، يتخذ من العلوم الحديثة محورا له سواء سمي هذا النظام بالنظام الحديث، أو بالنظام الغربي (2).
والازدواج التعليمي - كما نعلم جميعا - وافد إلينا من الغرب، مع ما وفد إلينا منه من مخترعات تكنولوجية، ومن آراء وأفكار، كان يحكم علاقتنا بها (الإحساس بالتخلف) الذي سيطر علينا فترة من الزمن، أول لقائنا بالغرب في العصور الحديثة، وفي الوقت الذي بدأت حدة الازدواج التعليمي فيه تخف في الغرب. بدأت هذه الحدة ذاتها تزيد في بلاد المسلمين، بفعل الاستعمار الغربي، الذي أراد ذلك لحاجة في نفسه. ".
إن معظم أنظمة التعليم في البلاد العربية والإسلامية لا تزال تستمد أفكارها الرئيسية وتعالج موضوعاتها من وجهة نظر غربية صرفة، لا تشير من بعيد أو قريب
(1) م - أ - قاضى - أسلمة المعارف العلمية الحديثة، مجلة المسلم المعاصر، العدد 35 ص 36، 1403 هـ.
(2)
د. عبد الغني عبود، التربية الإسلامية في القرن الخامس عشر الهجري، دار الفكر العربي، 1976، ص 102
إلى الفكر الإسلامي أو إلى علمائه. فما تأثير هذا على طلابنا وموجهي التربية في بلادنا وخاصة من نعدهم ليربوا لنا أجيالنا الناشئة؟ إن التفتح على كل التجارب الإنسانية النافعة، والاستفادة منها، والتفاعل معها من واقع الواثق بفكره وذاته وثقافته، أمر ضروري ومطلوب. ولكن لا بد أن يكون في حدود قيم ديننا وظروفنا وإمكانياتنا، ولا يقتلعنا من جذورنا الثقافية أو يشككنا في مقدرتنا وشخصيتنا الإسلامية العربية. إن التعليم الذي نعطيه لأبنائنا في المدارس ليس مرتكزا على القاعدة الإسلامية ولا يستمد من الروح الإسلامية. ثم ماذا في حياتنا إلا القليل من بقايا الفكر الإسلامي والتصور الإسلامي والسلوك الإسلامي. ينبغي أن نكون صريحين مع أنفسنا، وواقعنا بعيد بعدا كبيرا عن الإسلام وإن كانت فيه بين الحين والحين في بعض بلدان العالم الإسلامي بقايا من الإسلام» (1). إن نظمنا التعليمية السائدة في العالم الإسلامي تشكوا من ضعف في غرس الفضيلة والعقيدة في الجيل الجديد. كما تشكو من تقصير في إعداد الناشئة للحياة المعاصرة لا سيما في حقل التقنيات وفي الاتصال بالحياة العملية والاقتصادية. إن نظمنا التعليمية السائدة ومعظمها مستورد من الغرب تجعل هدف التعليم حفظ المعلومات لاجتياز الامتحانات بدل أن تفسح للطالب المجال الكافي لهضم المادة والتفكير والتحقيق والتطبيق فالهدف هو المعلومات وليس الطالب. يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: «لقد أهملت المراكز التربوية كلها جانب العاطفة والحب والإيمان واعتبرته من خصائص بعض النظم التي كانت محدثة دخيلة على الإسلام والتي تنافي في نظر بعض قادة التعليم ورجال الفكر روح الشريعة الإسلامية والطريقة السلفية، مع أنه حاجة من حاجات البشر ومطلب
(1) محمد قطب، منهج التربية الإسلامية – دار الفكر بالقاهرة، ص20
من مطالب الإسلام إذا نقي مما التصق به في العهود الأخيرة، وقد اتصف بهذا الجانب الرعيل الأول من المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولولا هذا الإيمان القوي والولوع والحب العميق وقوة العاطفة لما ظهرت منهم هذه الروائع الإيمانية والبطولات التي لا نظير لها في تاريخ الأمم ".
إن إهمال هذا الجانب قد جنى على نظامنا التعليمي جناية كبيرة، وأفقده العمق والرقة والسمو، وقوة المقاومة، وصلاحية الإبداع، وإشعال القرائح وتدفقها، فأصبح نظامنا التعليمي نظاما خشبيا جامدا لا حياة فيه ولا حركة، ولا نمو فيه ولا ازدهار، وأصبحت مراكزنا الثقافية وجامعاتنا الإسلامية مراكز حياة رتيبة جامدة يسود عليها الركود، ويهيمن عليها الجمود، وتتحكم فيها القوانين واللائحات.
إن أهم نقاط الضعف التي جعلت تعليمنا يبتعد عن أصالته هو عدم اعتماد فلسفة تربوية مستمدة من فلسفتنا الحياتية الكلية لتوجيه البحث في العلوم المختلفة بنوعيها الطبيعي والإنساني، والعلاج يكمن في أسلمة هذه العلوم، وإعادة النظر في طرق البحث المستعملة في بعضها، ومن ثم يجب أن تدرس هذه العلوم بطريقة تساعد على بيان عظمة الخالق عز وجل وترسيخ إيماننا به، وإحكام سيطرتنا على الطبيعة والكون واستغلال ثرواتهما.
كما أن هناك قضية أكبر ألا وهي مشكلة التغريب الثقافي الذي تتعرض له الأجيال الإسلامية، وهو تغريب ناجم عن التبعية للأجنبي في الشرق والغرب فكرا وسلوكا، وعن الانجذاب إلى ثقافته، انطلاقا من فكرة شاعت - بتأثير الثقافة الأجنبية نفسها - قوامها أن هناك نموذجا ثقافيا واحدا ووحيدا، هو النموذج الغربي، وأن كل ابتعاد عنه عجز وتخلف. إن هذا التغريب ما يزال يحول بيننا وبين أن نختار طريقنا الثقافي الإسلامي المتميز، اختيارا واعيا، وإن الخلاص منه وكسر التبعية للغرب هما اللذان يمكنانا من أن نحقق التكامل
بين ثقافتنا وثقافة سوانا، من دون عقد أو خوف أو رفض عاطفي، فلك أن التضامن الحقيقي، والحوار الخصب بين الثقافات، هو الذي يتم في إطار عملها جميعها، من أجل رفض النموذج الذي يريد أن يستلبها كلها، وينفيها جميعا.
وقد عرفت البلاد العربية الأهداف الحقيقية لهذا التغريب، ولمستها لمس اليد، عن طريق تجربة الجزائر مع الاستعمار الفرنسي، فلقد استهدفت استراتيجية التغريب التي ساقها المستعمر - كما هو معروف - العزل القسري للتراث العربي الإسلامي، وطمس الهوية الثقافية الراسخة في الجزائر، والقضاء على اللغة العربية، لغة القرآن، ذلك عن طريق السعي إلى استئصال المناعة الإسلامية، والجذور الإسلامية، التي تقف وحدها عقبة كأداء في طريق بلوغ الأهداف الاستعمارية.
ومما يزيد في خطورة التغريب، والتبعية، للنموذج الحضاري الأجنبي في الغرب والشرق، أن هذا النموذج قد وصل إلى طريق مسدود، وفشل في بناء مجتمع جدير بالإنسان، وإن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والنفسية، التي يعاني منها هذا النموذج الحضاري، التي أطنب في الحديث عنها الغربيون أنفسهم إلى فشله في علاج مشكلات العالم المتقدم نفسه، وإلى توسيعه للهوة القائمة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، وتعاظم اللا مساواة بين الشعوب، واستغلال ثرواتها المادية والبشرية.
وإن الخلل الأساسي في هذا النموذج هو فشله في تحقيق التوازن بين التطهر العلمي والتكنولوجي من جانب، والتطور الإنساني الروحي من جانب آخر، بحيث جعل الإنسانية أكثر تقدما في الظاهر، دون أن يجعلها أكثر سعادة، وبحيث نأى بها عن رسالتها الحقيقية، رسالة تسخير الكون لخدمة الإنسان، ولتحقيق المزيد من إنسانيته وقيمه.