الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحتويات
الافتتاحية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ....... 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ....... 23
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ....... 47
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ....... 69
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ....... 83
البحوث
أهمية دراسة التوحيد لفضيلة أ. د / محمد بن عبد الرحمن الجهني ....... 97
أسباب لدفع البلاء قبل وقوعه وأسباب لرفعه بعد وقوعه للدكتورة / منيرة بنت محمد المطلق ....... 163
وقفات مع آيات الإفك لفضيلة الدكتور / عبد العزيز بن عبد الله الخضيري ....... 291
التوجيهات النبوية في الجهاد ونشر الإسلام لفضيلة الدكتور / الأمين محمد محمود الجكني ....... 331
صفحة فارغة
الافتتاحية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
(محبة النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، إن الله جل جلاله ذكر عباده المؤمنين منته عليهم وفضله عليهم بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ليعرفوا قدر هذه النعمة، فيشكروا الله عليها، ويحمدوه عليها ويلتزموا ما جاء به محمد علما وعملا قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1)، أجل إنها منة كبرى ونعمة عظمى
(1) سورة آل عمران الآية 164
لمن تدبر وتعقل.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1)، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يستشعرون هذه المنة، ويعرفون قدر هذه النعمة حق المعرفة، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (2)، يعرفون حسبه، يعرفون نسبه، يعرفون صدقه، ما جرب عليه كذب، وما عرف بخيانة، ولا عثر فيه على خلق سيئ، بل هو محفوظ بحفظ الله من نشأته إلى وفاته، محفوظ بحفظ الله من كل سوء، ما عبد وثنا، وما تعاطى مسكرا، وما اقترف جريمة، بل هو معروف عندهم بالصادق الأمين، أدبه ربه فأحسن تأديبه، وعلمه فأحسن تعليمه، واختاره لهذا الأمر العظيم، لهذه الرسالة الكبرى، وربك يعلم حيث يجعل رسالته.
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (3)، يتلو عليهم القرآن، فيه خبر من قبلهم، وحكم ما بينهم، ونبأ ما بعدهم، يتلو عليهم هذا القرآن الذي هو سبب لإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (4).
ويزكيهم، يزكي أخلاقهم، يزكي نفوسهم، يزكي عقولهم بطهارتها
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2)
سورة آل عمران الآية 164
(3)
سورة آل عمران الآية 164
(4)
سورة إبراهيم الآية 1
من الشرك قليله وكثيره، وطهارتها من رذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} (1)، علمهم القرآن، وعلمهم السنة، وإن كانوا من قبل مبعثه لفي ضلال مبين.
أجل، كانوا قبل مبعث محمد في غاية من الضلال، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، يقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخبرا النجاشي لما سأله قال: كنا عباد أوثان، نأكل الميتة، ونشرب الخمر، ونقطع الرحم، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله فينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور. فهم قبل مبعثه في غاية من الضلال، قد اندرست أعلام الهدى، فليس الحق معروفا، ولكن الله أنقذ هذه الأمة بمبعث محمد.
إن مبعثه رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)، وكتابه نذير للعالمين {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (3)، بعثه الله برسالة للخلق كلهم، عربهم وعجمهم،
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2)
سورة الأنبياء الآية 107
(3)
سورة الفرقان الآية 1
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1)، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2).
فنسخ الله به كل الشرائع، نسخ الله بشريعته كل الشرائع، وألزم الخلق طاعته، وحكم على من خرج عن شريعته بالخسارة في الدنيا والآخرة {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3)، ويقول صلى الله عليه وسلم:«والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (4)» ، لأن الله جل وعلا ختم برسالته كل الرسالات، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (5).
أيها المسلم، حق محمد صلى الله عليه وسلم علينا أمور، فمن أعظم حقه الإيمان به، فمن أعظم حقه أن نؤمن به، ونصدق رسالته،
(1) سورة سبأ الآية 28
(2)
سورة الأعراف الآية 158
(3)
سورة آل عمران الآية 85
(4)
صحيح مسلم الإيمان (153)، مسند أحمد (2/ 350).
(5)
سورة الأحزاب الآية 40
ونعتقد أنه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى الخلق كلهم، ومن حقه علينا أن نسمع ونطيع له، فإن طاعته طاعة لله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1)، وطاعته سبب للهدى، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (2). ومن حقه علينا أن نحكم سنته ونتحاكم إليها ونرضى بها، وتطمئن بها نفوسنا، وتنشرح لذلك صدورنا، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)، وإذا أمر بأمر أو حكم بحكم نقبله، وليس لنا خيرة في ذلك، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (4).
إن طاعته سبب لدخول الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم:«كل أمتي يدخلون الجنة، إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (5)» .
(1) سورة النساء الآية 80
(2)
سورة النور الآية 54
(3)
سورة النساء الآية 65
(4)
سورة الأحزاب الآية 36
(5)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280)، مسند أحمد (2/ 361).
أيها المسلم، إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوان الإيمان، محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة الصادقة، بأن تحبه محبة فوق محبة نفسك التي بين جنبيك، قال عمر: يا رسول الله، والله إنك لأحب الناس إلي إلا نفسي، قال:«لا والله، حتى أكون أحب إليك من نفسك» ، قال: لأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال:«الآن يا عمر (1)» . وأخبر صلى الله عليه وسلم أن محبته محبة فوق محبة الولد والوالد فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده (2)» . وأخبر أن العبد لا ينال كمال الإيمان حتى يحب هذا النبي محبة فوق محبة الأهل والناس أجمعين، فيقول:«لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله والناس أجمعين (3)» .
أيها المسلم، ثمرة تلك المحبة أولا: طاعة الله ومحبة الله، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (4)، فلا ينال عبد محبة الله حتى يحب هذا النبي الكريم محبة صادقة من عميق قلبه. ومن ثمرات محبته أن المحب له يحشر معه يوم القيامة، ويلتحق به يوم القيامة، سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟» قال: حب الله ورسوله، قال:«المرء مع من أحب» ، قال أنس: فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بما قال النبي:
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6632)، مسند أحمد (5/ 293).
(2)
صحيح البخاري الإيمان (15)، صحيح مسلم الإيمان (44)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5013)، سنن ابن ماجه المقدمة (67)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 207)، سنن الدارمي الرقاق (2741).
(3)
صحيح البخاري الإيمان (15)، صحيح مسلم الإيمان (44)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5014)، سنن ابن ماجه المقدمة (67)، مسند أحمد (3/ 278)، سنن الدارمي الرقاق (2741).
(4)
سورة آل عمران الآية 31
«المرء مع من أحب» (1)»، قال أنس رضي الله عنه: فإني لأحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن يلحقني بهم وإن قل عملي.
أيها المسلم، إن لمحبة رسول الله علامات تدل على كمال محبة المسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فليست المحبة له مجرد ادعاء، ولكنها حقائق واقعة باتباع سنته وتطبيقها، والسؤال عنها ومحبتها، ومحاولة تطبيق المسلم سنة رسول الله في كل عباداته وأحواله، فما بلغه من سنته من شيء إلا أخذ بها وعمل بها وطبقها وفرح بذلك، إن محبته صلى الله عليه وسلم لا تكون بغلو الغالين فيه، ولا تكون بجفاء الجافي، إن محبته صلى الله عليه وسلم اتباع ما جاء به وتحكيم شريعته، وأعظم ذلك عبادة الله وحده لا شريك له، وصرف كل أنواع العبادة لرب العالمين، وألا يصرف منها شيء لغير الله، وقد أمره الله أن يقول:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (2){قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (3)، وقال له:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (4)، وحذرنا أن نغلو فيه فقال: «إياكم والغلو،
(1) صحيح البخاري المناقب (3688)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2639)، سنن الترمذي الزهد (2385)، سنن أبي داود الأدب (5127)، مسند أحمد (3/ 104).
(2)
سورة الجن الآية 21
(3)
سورة الجن الآية 22
(4)
سورة الأعراف الآية 188
فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (1)»، وقال لنا:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله (2)» ، ولعن في آخر حياته اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال:«ولا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم (3)» .
هكذا أرشدنا، هو مبعوث لإقامة شرع الله، للدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، والعبادة لا حق له ولا لغيره فيها، بل هي حق خالص لربنا جل وعلا، لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال:«أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده (4)» .
أيها المسلم، إن علامة محبة النبي صلى الله عليه وسلم تكون – كما سبق – باتباع سنته، والعمل بشريعته، والاقتداء به في القليل والكثير {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (5). فالمحب له هو المعظم لسنته، العامل بها إذا بلغته، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في كل الأحوال، يقتفي سنته، ويبحث عنها، ويسأل عنها، ويهتم بها، ويقيم لها وزنا، هكذا المؤمن المحب له صلى الله عليه وسلم.
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3057)، سنن ابن ماجه المناسك (3029)، مسند أحمد (1/ 215).
(2)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445)، مسند أحمد (1/ 24)، سنن الدارمي الرقاق (2784).
(3)
سنن أبي داود المناسك (2042)، مسند أحمد (2/ 367).
(4)
سنن ابن ماجه الكفارات (2117)، مسند أحمد (1/ 283).
(5)
سورة الأحزاب الآية 21
أيها المسلم، إن أصحابه الكرام قد أظهروا من كمال محبتهم له وحرصهم على سنته ما لا يخفى، أظهروا من محبتهم له وشفقتهم عليه وحرصهم على الاقتداء به ما جعلهم خير الخلق وأفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فاسمع – أخي – إلى أنواع من محبتهم له تدل على قوة الإيمان به، ومحبتهم له، رضي الله عنهم وأرضاهم.
يوم أراد المهاجرة من مكة إلى المدينة أتى الصديق في الظهيرة، «فلما قيل للصديق: هذا رسول الله، قال: بأبي وأمي، ما أتي به إلا لأمر جلل، فلما دخل عليه قال:«أذن لي بالهجرة» ، فقال الصديق: الصحبة يا رسول الله؟ فقال: «نعم» ، قالوا: فبكى الصديق رضي الله عنه فرحا، تقول عائشة: وما كنت أظن الفرح يوجب البكاء بعد الذي رأيت من أبي رضي الله عنه وأرضاه».
ومن ذلكم أن الصديق رضي الله عنه لما فطن لخطبة خطبها النبي أنها توديع لهم وإخبار بقرب أجله بكى الصديق رضي الله عنه، فخطب في آخر حياته قائلا:«إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده (1)» ، فبكى الصديق رضي الله عنه، قالوا: إن المخير هو رسول الله، وإن الصديق كان أعلمنا بذلك، رضي الله عنه وأرضاه.
ولما خطب بعد موت النبي بسنة، وأراد أن يقول: إن رسول الله
(1) صحيح البخاري الصلاة (466)، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2382)، سنن الترمذي المناقب (3660)، مسند أحمد (3/ 18)، سنن الدارمي المقدمة (77).
خطبنا في هذا اليوم من العام الأول بكى رضي الله عنه، وغلبه البكاء مرارا، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، «ما أوتي عبد بعد الإسلام خيرا من العافية، فاسألوا الله العافية (1)» .
ولما حضرت أبا بكر الوفاة، قال لهم: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين، قال: إن مت مساء فلا تنتظروا بي إلى الصباح، فإن أفضل يوم أو ليلة عندي أن ألحق بمحمد فرضي الله عنه وأرضاه.
وهذا خليفته عمر رضي الله عنه، حينما طعن وعلم أنه قرب أجله قال لابنه: يا بني، إن أهم أمر علي أن أدفن بجوار محمد وصاحبه أبي بكر، فاذهب إلى عائشة فقل لها: يقرئك عمر السلام، ويستأذنك في أن يدفن بجوار محمد وصاحبه، فذهب عبد الله إليها، وإذا هي تبكي على عمر حزنا عليه، فقال: يقرئك عمر السلام، ويقول: أستأذن منك أن أدفن بجوار محمد وصاحبه، قالت: لقد كنت أعده لنفسي، وإني لأوثره على نفسي، فرجع عبد الله إلى عمر، فقيل: هذا عبد الله، فقال أسندوني، ما وراءك؟ قال: ما يسرك يا أمير المؤمنين، لقد أذنت أن تدفن بجوار محمد وصاحبه، قال: الحمد لله، إنه لأمر كان يهمني، ثم قال: يا عبد الله، إذا صليتم علي، فمروا بجنازتي إلى عائشة، فلعلها أن تكون قالته حياء مني، فإن أذنت لي وإلا فضعوني مع المسلمين، فلما صلوا عليه مروا به
(1) سنن الترمذي الدعوات (3558)، سنن ابن ماجه الدعاء (3849)، مسند أحمد (1/ 11).
فقالت: ما كنت لآذن له حيا وأمنعه ميتا، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وهؤلاء أنصار الإسلام الأوس والخزرج، كانت محبتهم لرسول الله محبة صادقة حقا، فلما قسم النبي غنائم حنين، ولم يعطهم ولا المهاجرين شيئا، وخص بها المؤلفة قلوبهم، وجد بعضهم في نفسه شيئا، فدعا الأنصار وقال لهم:««يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! ومتفرقين فألفكم الله بي» ، فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن، قال:«يا معشر الأنصار، أترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون بالنبي إلى رحالكم» قالوا: نعم، قال:«المحيا محياكم، والممات مماتكم، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» رضي الله عنهم وأرضاهم (1)».
ربيعة الأسلمي قدم للنبي وضوءه فقال: «يا ربيعة، سلني» فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال:«أوغير ذلك؟» قال: هو ذاك، قال:«يا ربيعة، أعني على نفسك بكثرة السجود (2)» .
صحابي آخر أتى النبي قائلا: «يا رسول الله، كلما ذكرتك وأنا في بيتي، لا تطيب نفسي حتى أخرج وأنظر إليك، ولكن إذا ذكرت موتي وموتك وعلو منزلتك وأنا دون ذلك حزنت حزنا شديدا على ذلك،
(1) صحيح البخاري المغازي (4330)، صحيح مسلم الزكاة (1061)، مسند أحمد (4/ 42).
(2)
صحيح مسلم الصلاة (489)، سنن النسائي التطبيق (1138)، سنن أبي داود الصلاة (1320).
أيها المسلمون، محبة المسلم لرسول الله لا تكون بغلو فيه، ولا بإطرائه، ولا برفعه عن منزلته، ولا بإحياء مولد أو أمثال ذلك مما ابتدعه المبتدعون وأحدثه الضالون، وإنما تكون باتباع سنته والعمل بشريعته والطمأنينة إليها. إن صلة المسلم بنبيه صلة دائمة، وصلة مستمرة، وصلة لا تنقطع، في كل أحواله، في كل حركاته وسكناته، فله صلة بنبيه، إن صلى فإن صلته برسول الله الاقتداء به ليحقق قوله:««صلوا كما رأيتموني أصلي (2)» ، إن حج فصلته بنبيه:«خذوا عني مناسككم (3)» إن صام أو زكى فدائما صلته بنبيه، في أكله وشربه ونومه وبكائه وضحكه وغضبه ورضاه، في كل أحواله هو يقتدي بمحمد، ويتحرى الاقتداء به والتأسي به في القليل والكثير.
هكذا المسلم المحب له، أما محيو هذه الليلة ليلة المولد وأمثالها، فإن صلتهم صلة مبتورة، ليلة من الليالي يأتي فيها من الخرافات والبدع والضلالات ما الله به عليم، ويدعون أنهم بذلك معظمون لسنته، وهم بعيدون كل البعد عنها.
(1) سورة النساء الآية 69
(2)
صحيح البخاري أخبار الآحاد (7246)، سنن الدارمي الصلاة (1253).
(3)
سنن النسائي مناسك الحج (3062)، مسند أحمد (3/ 318).
إن أصحابه الكرام، خلفاءه ثم سائر أصحابه يعلمون ليلة مولده، ويعلمون ليلة مهاجره، ويعلمون أيام انتصاره، ويعلمون ليلة موته، ويعلمون كل هذه الأمور، وما نقل عنهم شيء من هذا، وهو أحب الناس إليهم، وهم المحبون له على الحقيقة والكمال، ومع هذا ما علمنا شيئا أحدثوه، ولكنهم متبعون ومقتدون ومتأسون به، فليكن المسلمون على ذلك. هذه حقيقة المحبة، حقيقة الإيمان والاتباع، السير على ما سار عليه، وعلى ما كان عليه أصحابه والتابعون وتابعوهم السائرون على المنهج القويم والطريق المستقيم، وفي الحديث:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، وفيه:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1)» .
عباد الله، الأصل في عباداتنا أن تكون خالصة لله، وأن تكون على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه، فكل عبادة نتعبدها لا أصل لها في سنة محمد فإنها عبادة باطلة؛ لكونها غير موافقة لسنة محمد.
وإن أصحابه الكرام أقرب الناس إليه، عاشوا معه وعرفوا هديه، وعرفوا عبادته، فكل عبادة ما تعبدوها فلنعلم أنها عبادة على غير هدى، إذ لو كانت عبادة حقا لكانوا أولى الناس بها، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2).
فهم أسوتنا وقدوتنا،
(1) صحيح البخاري الصلح (2697)، صحيح مسلم الأقضية (1718)، سنن أبي داود السنة (4606)، سنن ابن ماجه المقدمة (14)، مسند أحمد (6/ 256).
(2)
سورة التوبة الآية 100
ما نقلوا لنا عن محمد فهو الحق المقبول، وما لم ينقلوه في العبادة فالأصل أن كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله نعلم أنها مبتدعة لكونها لا دليل عليها، وإنما الحق ما وافق هديه، وكل بدعة تنشأ وتقام فلا بد أن يقابلها تعطيل لسنة من السنن.
إن المحيين لليلة المولد قد يكون قصد بعضهم خيرا لكنه لم يوفق للصواب، والغالب عليها أنها تعمر بأذكار وقصائد ودعوات باطلة، فيها دعاء للنبي، واستغاثة به، وغلو فيه، وإشراكه بالله، فهو يكره هذا ويأباه ولا يرضاه. وأحب الناس إليه من أمته من كان متبعا لسنته سائرا عليها بعيدا عن هذه البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1)، قال بعض السلف:(اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)، فالحق ما كان عليه أصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان، وهم المطبقون لسنته العاملون بها، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) سورة الشورى الآية 21