الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا هو التوحيد، قضية الوجود، له أرسل الله رسله، وفيه وقعت الخصومة بين الرسل وأممهم، وفيه أبيد قوم نوح وعاد وثمود وآل فرعون، وقرون آخرون، ونصر نوح وهود وصالح وموسى وأنبياء الله والموحدون معهم، فأي أهمية أعلى منه؟!.
المبحث الثاني: ضرورة الخلق إلى التوحيد
الخلق في ضرورة إلى التوحيد لا تستقيم حياتهم إلا به، ومن كانت ضرورته لشيء تعلقت حاجته به فإنه يهتم له وبه أعلى الاهتمام، فليس أهم مما تضطر إليه حياتك؛ ولذا فإن العلم بالضروري والبحث فيه وتقليب النظر فيه من مهمات حياتك بل من ضروراتها؛ ولذا فإن دراسة التوحيد ضرورة للعبد لضرورته إلى التوحيد. وهذان مطلبان معقودان لبيان وجه ضرورة الخلق إلى التوحيد.
المطلب الأول: فطرية التأله:
المقصود بالتأله التدين لإله بتعلق القلب وتوجهه إليه حبا ورجاء وخوفا، والتأله هو الغذاء الفطري الغريزي للروح ترجو به السكينة والطمأنينة وتطلب اللذة والسعادة، ذلك أن العبد مخلوق محدث لم يحدث نفسه ولم يحدث من غير شيء، فهو في أصله ليس فيه القدرة على إيجاد نفسه، وهو أيضا لا قدرة له أن يستقل بإحداث شيء لنفسه بعد وجوده، فلا قدرة له على إيجاد هواء ولا ماء ولا غذاء ولا نحوه مما يقوم به جنسه، ولا قدرة له على إيجاد حجارة ونحوها مما يحتاجه
لمأواه، ولا قدرة له على إيجاد دابة له ونحوها مما يحتاجه لمركبه، وهو أيضا لا يملك علما بغده ولا قدرة له لإحداث غد ولا قدرة مستقلة لإجراء مقادير غده، وهكذا فهو في حاجة دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة لمن يوجده ويدبره، وهذا ضعف بين فيه، وهذا يجعله قلقا مضطربا مهموما منهمكا، وإنما يسكن ويهدأ ويهنأ ويتقوى من ضعف باللجوء إلى موجده ومدبره والتعلق به، والروح غذاؤها فيما يقويها، ولذلك كان التأله فطرة الخلق لا تنفك عنهم أبدا، فإن سلمت فطرته رشد تألهه فتدين للإله الحق، وإن مرضت فطرته ضل تألهه فتدين لمن يظن فيه قوته ويغتر بنفع يظنه يأتيه منه.
والعبد لا ينفك من العبودية، إن لم يعبد الله عبد غيره ولا بد، يقول ابن تيمية رحمه الله: " وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أصدق الأسماء: حارث وهمام (1)» فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمام: فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائما وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد
(1) ليس هذا في الصحيح بل هو من حديث ضعيف بلفظ " وأصدقها. . . " أخرجه أحمد 31/ 377 رقم 19032، وأبو داود 4/ 288 رقم 4950، وانظر ضعيف النسائي للألباني ص 129 رقم 233.
من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب: إما المال وإما الجاه وإما الصور وإما ما يتخذه إلها من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابا أو غير ذلك مما عبد من دون الله، وإذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله وكان مشركا " قال:" وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (1) بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول فيكون مشركا بما استعبده من ذلك "(2) ويقول ابن القيم " إذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه، وهذا من تبديل الدين وتغيير فطرة الله التي
(1) سورة الأعراف الآية 127
(2)
العبودية، الآية: 111
فطر عليها عباده، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) أي نفس خلق الله لا تبديل له فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع لا تبديل لنفس هذا الخلق ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها (2)» فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التي خلقت عليها، فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة، ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها " (3)
وفي كلامهما رحمهما الله بيان أمرين: الأول أن التأله فطري غريزي، والثاني أن الله فطرهم على التأله له وحده سبحانه، وقدر سبحانه أنهم قد تتغير فطرتهم في التأله لله ولكن لا تتغير فطرتهم في لزوم التأله، فإذا غيروا ما فطروا عليه من التأله لله تألهوا لغيره ولا بد. وفي الحديث الذي أورده ابن القيم رحمه الله ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا بينا لفطرة الخلق على
(1) سورة الروم الآية 30
(2)
متفق عليه، البخاري مع الفتح 3/ 245 رقم 1385، ومسلم 4/ 2047 رقم 2658.
(3)
إغاثة اللهفان ص 659، وانظر الفتاوى 10/ 134 – 135.