الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكثير من الناس لا يصل من أرحامه إلا من وصله ولا يحسن إلا لمن أحسن إليه، وليست هذه هي الصلة الحقيقية المأمور بها، قال صلى الله عليه وسلم:«ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها (1)» .
إن صلة الأرحام قد خف ميزانها عند كثير من الناس اليوم، لا سيما مع الطفرة المادية التي عمت المجتمع فنسيت الحقوق وأهملت الواجبات حتى صار الأرحام أغرابا لا يعرف بعضهم بعضا إلا في المناسبات العامة والمواسم الجامعة، فحري بالأمة أن تعود إلى كتاب ربها عز وجل وإلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم كي يتحقق المجتمع الفاضل وتسود روح الألفة والمودة، ويعود الناس إخوانا متحابين كما أراد الله تعالى لهم.
(1) أخرجه البخاري 5/ 2233 ح 5645، وأبو داود 2/ 133 ح 1697، والترمذي 4/ 316 ح 1908، والإمام أحمد 2/ 163 ح 6524.
الوقفة الرابعة عشرة:
مع الاستشارة:
للاستشارة قدر كبير وأهمية عظيمة في الوصول إلى سداد الرأي وصواب القرار، ولهذا كانت من صفات العقلاء وسمات الفضلاء حرصا على إصابة الحق ومجانبة الزلل، وقديما قيل: ما خاب من استخار، وما ندم من استشار.
وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين لتخلقهم بهذا الخلق العظيم، فقال عز وجل:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1)، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة
(1) سورة الشورى الآية 38
أصحابه فقال عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (1)، وقد امتثل عليه الصلاة والسلام لذلك مع أنه أكمل الناس عقلا وأصوبهم رأيا، فكان كثيرا ما يقول لأصحابه:«أشيروا علي أيها الناس (2)» وفي حادثة الإفك استشار صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد في أمر عائشة رضي الله عنها (3) وهما في منزلة أولاده، بل أسامة في منزلة أحفاده؛ فإن أباه زيد بن حارثة كان يسمى قبل تحريم التبني زيد بن محمد، وما ذلك إلا ليعلم الناس أهمية الاستشارة وفضلها.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة فالذي ينبغي في حق المسلم أن يحرص على الاستشارة في أموره كلها وألا يتفرد بالرأي، لا سيما فيما لا خبرة له فيه، فإن ذلك أدعى إلى إصابة الحق ومجانبة الخطأ، ولا شك أن أمرا ينظر فيه اثنان أو ثلاثة أحرى بأن يكون صوابا من تفرد واحد بالنظر فيه.
ويجب أن يكون المستشار ثقة أمينا حكيما مجربا - ولو امرأة، وقد ثبت في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من مكاتبة قريش في صلح الحديبية أمر أصحابه أن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاثا، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2)
انظر: صحيح البخاري 4/ 1531 ح 3944.
(3)
راجع سبب النزول ص 292.
بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل يحلق بعضهم بعضا (1)».
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو عقلا وفضلا - لا يجد غضاضة في أن يعرض أمر الأمة على امرأته ثم يأخذ بقولها ويعمل بمشورتها، فأين من هذا الخلق الكريم من جعل النساء من سقط المتاع فلا يقيم لهن وزنا ولا يرى لهن رأيا حتى في الأمور التي هن بها أدرى وعليها أقدر!
وبعد. . فهذا جهد مقل، حاولت فيه - متفيئا ظلال هذه الآيات الكريمات - أن أقف عند دلالاتها وأحكامها وهداياتها بحسب ما يقتضيه الحال والمقام من الاختصار وعدم الإطالة، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من غيره فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) أخرجه البخاري 2/ 978 ح 2581.