الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع: تحريم الإسلام للغدر في حق جميع الناس:
وكما حرم الإسلام الظلم حتى مع أهل الذمة، لأن العدل قد يكون وسيلة من وسائل الدعوة وطريقا لدخولهم في الإسلام، فإن من عدالة الإسلام أيضا أنه حرم الغدر، وهذا قد ترجم له البخاري في باب إثم من عاهد ثم غدر. وأوضح الحافظ أن الغدر حرام باتفاق، سواء كان في حق المسلم أو الذمي.
وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما؟ فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟ قال: إني والذي نفس أبي هريرة بيده، عن قول الصادق المصدوق، قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم (1)»
قوله: (إذا لم تجتبوا) من الجباية بالجيم والموحدة، وبعد الألف تحتانية، أي لم تأخذوا من الجزية والخراج شيئا.
(تنتهك) بضم أوله أي تتناول بما لا يحل من الجور والظلم.
(فيمنعون ما في أيديهم) أي يمتنعون من أداء الجزية (2)
قال الحميدي: أخرج مسلم معنى هذا الحديث من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه «منعت العراق درهمها وقفيزها (3)» وساق الحديث بلفظ الفعل الماضي، والمراد به ما يستقبل مبالغة في الإشارة إلى تحقق وقوعه.
(1) البخاري، 6/ 280 (3180).
(2)
الفتح، 6/ 280.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي، 18/ 20، الفتن (33)، باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل ذهب، مسند أحمد، 2/ 262، سنن أبي داود، 3/ 426 (3035).
ولمسلم عن جابر أيضا مرفوعا «يوشك أهل العراق ألا يجتبى إليهم بعير، ولا درهم)، قالوا: مم ذلك؟ قال: (من قبل العجم يمنعون ذلك (1)»
وفيه علم من أعلام النبوة، والتوصية بالوفاء لأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع المسلمين، وفيه التحذير من ظلمهم، وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد فلم يجتب المسلمون منهم شيئا فتضيق أحوالهم. والإنذار بما سيكون من سوء العاقبة وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر، وكذلك وقع (2)
قال النووي: وذكر في منع الروم ذلك بالشام مثله، وهذا قد وجد في زماننا في العرق، وهو الآن موجود، وقيل: لأنهم يرتدون في آخر الزمان فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها. وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان فيمتنعون مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج وغير ذلك. (3)
وهناك فرق بين ارتدادهم، أو منعهم من دفع الجزية ولم يكن في ذلك ظلم أو تكليف لما لا يطيقون، وبين الحال إن كانت تؤخذ منهم زيادة على ما تم الصلح عليه أو فيه مشقة عليهم، حيث إن نظرتهم للإسلام والمسلمين تختلف باختلاف الحالين.
وقد أثبتت الأحداث والتجارب أن مآل الغدر مذموم، ومقابل ذلك
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، 18/ 38، كتاب الفتن (67)، صحيح مسلم مع إكمال المعلم، 8/ 458، ومسند أحمد، 3/ 317.
(2)
الفتح، 6/ 280.
(3)
شرح مسلم، 18/ 20، 21.
الوفاء، وهو ممدوح، كما حدث لقريش لما نقضت العهد، صارت الغلبة عليهم، وزاد قهرهم بفتح مكة. كما في حديث سهل بن حنيف في الصلح وأنه كان فتحا (1) مع كراهية بعض المسلمين للصلح في أول الأمر، ثم تبين لهم أن رأي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح والوفاء به أتم وأحمد من رأيهم في المناجزة. كما أن الوفاء يقتضي جواز صلة القريب، ولو كان على غير دين الواصل، كما في حديث أسماء بنت أبي بكر لما قدمت عليها أمها وهي مشركة في عهد الصلح، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تصلها (2) وقد ختم البخاري كتاب الجهاد وكتاب الجزية والموادعة بحديث أنس، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم أنه ينصب لكل غادر لواء
قال العلماء: يفهم من الأحاديث أن الغادر يعامل بنقيض قصده بنصب لوائه عند أسفله زيادة في فضيحته وذمه من أهل الموقف. وفي الحديث غلظ تحريم الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير، ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء.
وقال عياض: المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الإمام إذا غدر في عهوده لرعيته أو لمقاتلته أو للإمامة التي تقلدها والتزم القيام بها، فمتى خان فيها أو ترك الرفق فقد غدر بعهده. وقيل: المراد نهي الرعية عن الغدر
(1) البخاري، 6/ 281 (3182).
(2)
البخاري، 6/ 281 (3183).