الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية: «أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه (1)» فإن هذا الدعاء فيه التبرؤ من الحول والقوة إلا بالله؛ يقول ابن رجب: (إن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها)(2)
(1) أخرجه: ابن ماجه: 2/ 943، وأحمد: 2/ 403، وابن حبان: 6/ 401، والنسائي في الكبرى: 3/ 168، والبيهقي في السنن: 6/ 173. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: 3/ 168 (هذا إسناد فيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف، لكن لم ينفرد به ابن لهيعة، فقد رواه النسائي في عمل اليوم والليلة عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن الليث وسعيد بن أبي سعيد كلاهما عن الحسن بن ثوبان به، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق ابن لهيعة به). وقال المناوي في فيض القدير: 1/ 502: (رمز المصنف لحسنه، وفيه هشام بن عمار وقد سبق بيانه، وابن لهيعة وقد ضعفوه، لكنه متماسك وحديثه حسن، وموسى بن وردان أورده الذهبي في الضعفاء وقال: ضعفه ابن معين).
(2)
جامع العلوم والحكم ابن رجب: 187.
المبحث الثاني عشر: الأخذ بالتوجيهات الشرعية عند رؤية الرؤى السارة والمحزنة:
لقد وجه صلى الله عليه وسلم أمته لما فيه خيرها من جلب خير أو دفع شر، ومن الأمور الشرعية التي تدفع البلاء موقف المسلم من الرؤى، والرؤى تنقسم إلى قسمين: الرؤيا الحسنة والرؤيا السيئة، وللمسلم في كل منهما موقف يخصه:
1 -
أما ما يخص الرؤيا الحسنة فيستحب للرائي:
أ - أن يحدث بها، فقد ثبت بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به (1)» لبيان نعمة الرب على العبد، فهذا من شكر النعم التي تدخل تحت قوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2).
بـ - ألا يخبر بها إلا من يحب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «فلا يحدث بها إلا من يحب (3)» فيكون ذا مودة له فلا يكيد له ولا يحسده، ويذكر الحافظ ابن حجر بأن تقييد الإخبار بالرؤيا الحسنة لمن يحب لأنه إذا حدث بالرؤيا الحسنة من لا يحب قد يفسرها له بما لا يحب؛ إما بغضا وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب (4) قال الله تعالى عن يعقوب: إنه قال ليوسف عليهما السلام: {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5) يقول ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي
(1) أخرجه البخاري: 6/ 2582.
(2)
سورة الضحى الآية 11
(3)
أخرجه البخاري: 6/ 2582.
(4)
انظر فتح الباري ابن حجر: 12/ 431.
(5)
سورة يوسف الآية 5
تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما، فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك، فيبغون له الغوائل حسدا منهم له؛ ولهذا قال له: لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا، أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها) (1)؛ لأن كل صاحب فضل ونعمة محسود، فإذا عرف عدوه عن هذه الرؤيا الحسنة حسده (فعمل الحيلة على إفسادها وربما يكون هذا سببا في زوال النعمة، والأولى والأفضل ألا يحدث بها إلا عالما أو ناصحا، فالعالم يدله على تفسيرها ويؤولها له على الخير مهما كانت، والناصح يرشده إلى ما ينبغي، ويعينه عليه (2)
وسبب النهي عن التحدث بها هو الخوف من البغي على صاحب الرؤيا قبل أن توجد، فإذا وجدت فيتحدث بها من باب شكر النعم؛ يقول ابن كثير:(ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث: «استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها؛ فإن كل ذي نعمة محسود (3)»
(1) تفسير القرآن العظيم ابن كثير: 2/ 470.
(2)
انظر شرح النووي على صحيح مسلم: 15/ 17، والجامع لأحكام القرآن القرطبي: 4/ 3356.
(3)
أخرجه الروياني في مسنده عن معاذ: 2/ 427، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه:(أنه حديث منكر، لا يعرف له أصل، وفيه حسين بن علوان)، وقد قال ابن عدي:(عامة أحاديثه موضوعة) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8/ 195 رواه الطبراني في الثلاثة وفيه سعيد بن سلام العطار، وقال العجلي: لا بأس به، وكذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ)، وذكر العجلوني أيضا في الكشف: 1/ 135 أن الخلعي ذكره في فوائده عن علي رفعه، وقال:(ويستأنس له بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: (إن لأهل النعم حسادا فاحذروهم).
جـ - لا يخبر بها إلا العالم بتأويلها؛ لأن الرؤيا تقع على حسب ما يعبرها المعبر، فلا يسأل إلا من اتصف بصفات منها العلم والنصح والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم:«إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك رجل رفع رجله، فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا عالما أو ناصحا (1)» «فالرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت (2)» قال: وأحسبه قال: «ولا يقصها إلا على واد أو ذي رأي (3)»
وفي رواية: «ولا يحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا (4)» ؛ لأن العالم يؤول بها له على الخير مهما أمكنه ذلك، وأما الناصح فإنه يرشد إلى ما ينفعه، ويعينه عليه، وأما اللبيب وهو العارف بتأويلها فإنه يعلمه بما يؤول عليه في ذلك، أو يسكت، وأما الحبيب فإنه إن عرف خيرا قاله، وإن جهل أو شك سكت (5) لأنه يعلم أنها إذ عبرت وقعت على الرائي يعني يلحقه حكمها،
(1) أخرجه الحاكم: 4/ 433 وقال: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي وصححه الألباني في الصحيحة: 1/ 24.
(2)
سنن الترمذي الرؤيا (2278)، سنن أبي داود الأدب (5020)، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3914)، مسند أحمد (4/ 10)، سنن الدارمي الرؤيا (2148).
(3)
أخرجه أبو داود: ج4 ص305، وابن ماجه: ج2/ 1288، وابن حبان، ج13 ص415، قال الألباني في سنن أبي داود: 5020 (صحيح).
(4)
أخرجه الترمذي: 9/ 132، وقال: حديث حسن صحيح.
(5)
انظر: فتح الباري ابن حجر: 12/ 369، وتحفة الأحوذي المباركفوري: 6/ 129.
قال في النهاية (1)«الرؤيا على رجل طائر، ما لم تعبر (2)» أي لا يستقر تأويلها حتى تعبر، يريد أنها سريعة السقوط إذا عبرت، كما أن الطير لا يستقر في أكثر أحواله، فكيف ما يكون على رجله؟ ومنه الحديث:«الرؤيا لأول عابر (3)» «وهي على رجل طائر (4)» .. أراد على رجل قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر «والرؤيا لأول عابر (5)» يعبرها أي أنها إذا احتملت تأويلين أو أكثر فعبرها من يعرف عبارتها وقعت على ما أولها وانتفى عنها غيره من التأويل، وقال السيوطي: والمراد أن الرؤيا هي التي يعبرها المعبر الأول، فكأنها كانت على رجل طائر، فسقطت ووقعت حيث عبرت، وأحسبه أي النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أي لا تعرض رؤياك إلا على واد) بتشديد الدال أي محب لأنه لا يستقبلك في تفسيرها إلا بما تحب، أو ذي رأي، أي: عاقل أو عالم، قال الزجاج: معناه ذو علم بعبارة الرؤيا، فإنه يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب ما يعلم منه (6) وقال الألباني: (والحديث صريح بأن الرؤيا تقع على مثل ما تعبر، ولذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نقصها إلا على ناصح أو عالم؛ لأن المفروض فيهما أن يختارا أحسن المعاني في تأويلها فتقع على وفق ذلك، لكن مما لا ريب فيه أن ذلك
(1) في غريب الحديث
(2)
سنن الترمذي الرؤيا (2278)، سنن أبي داود الأدب (5020)، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3914)، مسند أحمد (4/ 10)، سنن الدارمي الرؤيا (2148).
(3)
أخرجه ابن ماجه: 2/ 1288، وأبو يعلى في مسنده: 7/ 158، وقال ابن حجر في فتح الباري: 12/ 432: (هو حديث ضعيف، فيه يزيد الرقاشي، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبي رزين رفعه).
(4)
سنن الترمذي الرؤيا (2279)، سنن أبي داود الأدب (5020)، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3914)، مسند أحمد (4/ 12، 4/ 13)، سنن الدارمي الرؤيا (2148).
(5)
سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3915).
(6)
انظر: عون المعبود الطيب آبادي: 12/ 248.
مقيد بما إذا كان التعبير مما تحتمله الرؤيا ولو على وجه وليس خطأ محضا، وإلا فلا تأثير له حينئذ، والله أعلم.
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام البخاري في كتاب التعبير من صحيحه بقوله: باب من يروي الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب (1) ثم ساق حديث (الرجل الذي رأى في المنام ظلة وعبرها أبو بكر الصديق)، ثم قال: فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أصبت بعضا وأخطأت بعضا (2)»
د - يستبشر بها مع كتمانها إلا على من يحب، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر إلا من يحب (3)»
هـ - يحمد الله تعالى عليها: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها (4)» لأن الرؤى الحسنة والصالحة نعمة وفضل من الله.
2 -
فيما يخص الرؤيا المكروهة:
قد يرى المسلم ما يزعجه في منامه وينغص عليه حياته، فحتى لا تقع الرؤيا السيئة التي رآها عليه التمسك بآداب الرؤيا التي جاءت بالسنة، فقد أخبر الرسول أنها لا تضره، فقد كان أبو سلمة يرى الرؤيا فيصيبه الهلع منها
(1) صحيح البخاري: 6/ 4582.
(2)
أخرجه البخاري: 6/ 4582.
(3)
أخرجه مسلم: 4/ 1772.
(4)
صحيح البخاري التعبير (7045)، سنن الترمذي الدعوات (3453)، مسند أحمد (3/ 8).
حتى لقي أبا قتادة فذكر ذلك له، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شرها؛ فإنها لن تضره (1)» وفي رواية (قال: «إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها (2)» وفي رواية أن أبا سلمة قال: (إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني، قال: فلقيت أبا قتادة، فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث به أحدا فإنها لن تضره (3)» وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كانت امرأة من أهل المدينة له زوج يتاجر (ويسافر) فكانت ترى رؤيا كلما غاب عنها زوجها، وقلما يغيب إلا تركها حاملا فتأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: إن زوجي خرج فتركني حاملا، فرأيت فيما يرى النائم أن سارية بيتي انكسرت وأني ولدت غلاما أعور، فقال
(1) أخرجه البخاري: 6/ 2582 ومسلم: 4/ 1771.
(2)
أخرجه البخاري: 6/ 2582.
(3)
أخرجه البخاري: 6/ 2582، ومسلم: 4/ 1772.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير، يرجع زوجك عليك إن شاء الله تعالى صالحا، وتلدين غلاما برا)، فكانت تراها مرتين أو ثلاثا، كل ذلك تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ذلك لها فيرجع زوجها وتلد غلاما، فجاءت يوما كما كانت تأتيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، وقد رأت تلك الرؤيا، فقلت لها: عم تسألين رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمة الله؟ فقالت: (رؤيا كنت أراها فآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها فيقول خيرا، فيكون كما قال، فقلت: فأخبريني ما هي؟ قالت: حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرضها عليه كما كنت أعرض، والله ما تركتها حتى أخبرتني، فقلت: والله لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكي، فقال: ما لها يا عائشة؟ فأخبرته الخبر وما تأولت لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة إذا عبرتم المسلم الرؤيا فاعبروها على الخير؛ فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها) فمات والله زوجها، ولا أراها إلا ولدت غلاما فاجرا (1)»
(1) أخرجه الدارمي: 2/ 174، وقال ابن حجر في الفتح: 12/ 432: (وعند الدارمي بسند حسن). وقال محقق سنن الدارمي: 2/ 175 فواز زمرلي: (وفي سنده محمد بن إسحاق، وقد عنعن).
فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أشياء من أجل دفع شر هذه الرؤيا المكروهة، وهي:
أولا: أن يتعوذ بالله من شرها ثلاثا.
ثانيا: يتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاثا.
ثالثا: يبصق على يساره ثلاثا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «فليبصق على يساره حين يهب من نومه ثلاثا (1)» أو ينفث، قال صلى الله عليه وسلم:«الحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره (2)»
رابعا: يتحول من جنبه الذي كان عليه: قال صلى الله عليه وسلم: «وليتحول عن جنبه الذي كان عليه (3)»
خامسا: لا يتحدث بها. ولا يذكرها لأحد أصلا ولا يحدث بها حتى لا تقع (4)
سادسا: لا يفسرها لنفسه، بل يحاول نسيانها تماما فلا يفكر بها ولا يحاول تأويلها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا رأى أحدكم الرؤيا الحسنة فليفسرها، وليخبر بها، وإذا رأى الرؤيا القبيحة فلا يفسرها، ولا يخبر بها (5)»
(1) أخرجه البخاري: 6/ 2582.
(2)
أخرجه البخاري: 6/ 2582 ومسلم: 4/ 1771.
(3)
أخرجه مسلم: 4/ 1772.
(4)
انظر فتح الباري ابن حجر: 12/ 371.
(5)
أخرجه ابن عبد البر في التهميد (1 - 287 - 288) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 414).
سابعا: يصلي: قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل (1)»
ثامنا: يقرأ آية الكرسي: وقراءة آية الكرسي لم ترد في السنة، لكن بعض العلماء استنتج ذلك من بعض الأحاديث منهم النووي، يقول ابن حجر: ورأيت في بعض الشروح ذكر قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة «ولا يقربنك الشيطان (2)» فيتجه، وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة.
فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح، وهي مشروعة في كل أمر يكره. وأما الاستعاذة من الشيطان فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وإنما يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه كما تقدم. وأما التفل فقال عياض: أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له
(1) أخرجه مسلم بلفظ: 4/ 1773 (فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس).
(2)
أخرجه البخاري ج2/ص812.
واستقذارا، وخصت به اليسار؛ لأنها محل الأقذار ونحوها. قلت: والتثليث للتأكيد، وقال القاضي أبو بكر بن العربي فيه إشارة إلى أنه في مقام الرقية ليتقرر عند النفس دفعه عنها؛ وعبر في بعض الروايات البصاق إشارة إلى استقذاره .. قال عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء .. قلت: لكن المطلوب في الموضعين مختلف؛ لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره .. فإنها لا تضره، فمعناه أن الله جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه والمترتب على الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال، انتهى. وأما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله، ولأن في التحرم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه، ثم سجوده. وأما التحول فللتفاؤل بتحول من تلك الحال التي كان عليها. قال النووي: وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث. قلت: لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم، أشار المهلب إلى أن الاستعاذة
كافية في دفع شرها، وكأنه أخذه من قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (1){إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان، وقال القرطبي في المفهم (3) الصلاة تجمع ذلك كله لأنه إذا قام فصلى تحول عن جنبه وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه، وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح
…
عن إبراهيم النخعي قال: «إذا رأى أحدكم في منامه ما يكرهه فليقل إذا استيقظ: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله، من شر رؤياي هذه أن يصبني فيها ما أكره في ديني ودنياي (4)» وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك قال: بلغني
(1) سورة النحل الآية 98
(2)
سورة النحل الآية 99
(3)
وورد هذا الكلام أيضا في كتاب الجامع لأحكام القرآن: 9/ 128
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 6/ 183، ومعمر بن راشد في الجامع: 11/ 214