الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثير: أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له في أمره مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي من جهة لا تخطر بباله (1)
فالذي يتقي الله ينجيه الله عز وجل من كل كرب من كرب الدنيا والآخرة ويجعل له من كل شيء ضاق على الناس مخرجا (2)
وفي التقوى حفظ من الشيطان وشره، ودفع لوسواسه وتلبسه، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (3).
(1) تفسير القرآن العظيم ابن كثير 4/ 380.
(2)
انظر: جامع البيان الطبري: 28/ 138.
(3)
سورة الأعراف الآية 201
المبحث الثالث: التزود بالطاعات وترك المحرمات:
وكلما زاد العبد طاعة لله كلما ازداد بعدا عن المعاصي واقترب من الله فيكون في مأمن مما يشقيه.
دفع الطاعات والورع للبلاء: إن الإكثار من الطاعات وحفظ الفرائض وترك المحرمات سبب لدفع البلاء وجلب الخير والسرور ودوام الحبور، لأن حفظ الأوامر والفرائض بفعلها وعدم تركها أو التساهل بأدائها وحفظ الأدعية والأذكار بقولها، وحفظ الحدود بالوقوف عندها من أسباب حفظ الله للعبد في دنياه
من الذنوب وعن كل أمر يكرهه ويحفظ ذريته من بعده، يقول صلى الله عليه وسلم:«يا غلام، إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (1)»
يقول الصنعاني: المراد من قوله (احفظ الله) أي حدوده وعهوده وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك هو: الوقوف عن أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده ألا يتجاوزها ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهي عنه، فيدخل في ذلك فعل الواجبات كلها من الصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها، وترك المنهيات كلها من الكبائر والصغائر، وقال تعالى:{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (2)، وقال:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} (3)، وفسر العلماء الحفيظ بالحافظ لأوامر الله، وفسر بالحفظ لذنوبه حتى يرجع منها، فأمره صلى الله عليه وسلم بحفظ الله،
(1) أخرجه أحمد 1/ 293 والترمذي 4/ 667، وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم 3/ 541، وأبو يعلى في مسنده: 3/ 84، وقال محققه حسين أسد: صحيح. وقال المحقق لكتاب ابن رجب نور الاقتباس: حديث صحيح بطرقه. 270.
(2)
سورة التوبة الآية 112
(3)
سورة ق الآية 32
ويدخل فيه كل ما ذكر وتفاصيلها واسعة، وقوله:" تجده أمامك " وفي اللفظ الآخر " يحفظك " والمعنى متقارب أي تجده أمامك بالحفظ لك من شرور الدارين، يحفظه في دنياه عن غشيان الذنوب وعن كل أمر مرهوب ويحفظ ذريته من بعده، وقوله:" فاسأل الله " أمر بإفراد الله عز وجل بالسؤال وإنزال الحاجات به وحده، وأخرج الترمذي مرفوعا:«سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل (1)»
وفيه من حديث أبي هريرة مرفوعا: «من لا يسأل الله يغضب عليه (2)» وفيه: «إن الله يحب الملحين في الدعاء» ، وفي حديث آخر: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله (3)
(1) أخرجه الترمذي: 5/ 565، والطبراني في الكبير: 8/ 431، وقال الألباني في السلسة الضعيفة 1/ 705: ضعيف جدا.
(2)
أخرجه الترمذي: 5/ 456، والحاكم: 1/ 667، وقال: صحيح الإسناد. والشهاب في مسنده: 2/ 145، وذكر ابن حجر في الفتح: 11/ 95 أن الطبراني أخرجه في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا.
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى: 5/ 154، وابن حبان: 3/ 148، والطبراني في الأوسط: 5/ 230، والكبير: 10/ 101، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10/ 150، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة.
إذا انقطع إذا انقطع» «وقد بايع النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم جماعة من الصحابة على ألا يسألوا الناس شيئا منهم الصديق وأبو ذر وثوبان» «وكان أحدهم يسقط سوطه أو يسقط خطم نافته فلا يسأل أحدا أن يناوله (1)» وإفراد الله بطلب الحاجات دون خلقه دل عليه العقل والسمع فإن السؤال بذل لماء الوجه وذل لا يصلح إلا لله تعالى لأنه القادر على كل شيء الغني مطلقا والعباد بخلاف هذا ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي: «يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر (2)» وفي رواية أخرى بزيادة: «إني جواد
(1) أخرجه أبو داود: 3/ 12، وابن ماجه: 2/ 957، وقال الألباني في سنن أبي داود: 1642: صحيح.
(2)
أخرجه مسلم: 4/ 1994.
ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون (1)» وقوله: «إذا استعنت فاستعن بالله (2)» مأخوذ من قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) أي نفردك بالاستعانة فالنبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أمره أن يستعين بالله وحده في كل أموره أي إفراده بالاستعانة على ما يريده، وفي إفراده تعالى بالاستعانة فائدتان فالأولى: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في الطاعات، والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان (4)
ومثل هذا الكلام ذهب إليه ابن رجب بقوله: معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5)،
(1) أخرجه الترمذي: 4/ 656، وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه: 2/ 1422، وأحمد: 5/ 154.
(2)
سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516)، مسند أحمد (1/ 308).
(3)
سورة الفاتحة الآية 5
(4)
سبل السلام الصنعاني: 4/ 176.
(5)
سورة النحل الآية 128
قال قتادة: من يتق الله يكن معه ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل، بل كتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو، وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون:{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (1)، وقول موسى:{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (2) فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة (3) وهذا الحفظ يشمل عمل جميع الطاعات والأذكار بفعلها وترك جميع المحرمات فإذا فعل ذلك حفظ، يقول ابن رجب: فمن حفظ الله حفظه من كل أذى. قال بعض السلف: من اتقى الله حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله غني عنه. ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطباع حافظة له من الأذى كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حين كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه (4) وعكس هذا أن من ضيع الله ضيعه
(1) سورة طه الآية 46
(2)
سورة الشعراء الآية 62
(3)
جامع العلوم والحكم ابن رجب: 188.
(4)
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 366، والذهبي في السير: 3/ 173.
فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي.
وهذا هو النوع الأول، والنوع الثاني من الحفظ: وهو أشرف النوعين حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان، لأن العبد حفظ نفسه فحفظه الله، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمره أن يقول عند منامه:«إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين (1)» وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة أن يقول: «اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا ولا تطمع في عدوا ولا حاسدا (2)» فإن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها (3) وبعضها يكون معجزة أو كرامة، كما حصل من انفلاق البحر لموسى عليه السلام وقومه وانطباقه على فرعون وجنوده، وكما حصل
(1) أخرجه البخاري: 5/ 2329.
(2)
أخرجه ابن حبان: 3/ 214، والحاكم: 1/ 706، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه
(3)
جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 87
لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين التقى المسلمون الأعداء، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فغشي الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته الشهباء، فنزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال:«شاهت الوجوه) فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين (1)» وما حصل للعلاء بن الحضرمي عندما بعثه أبو بكر الصديق في جيش قبل البحرين وكانوا قد ارتدوا، فسار إليهم وبينه وبينهم البحر - يعني الرقراق - حتى مشوا فيه بأرجلهم، فقطعوا كذلك مكانا كانت تجري فيه السفن، وهي اليوم تجري فيه أيضا، فقاتلهم، وأظهره الله عليهم وبذلوا الزكاة) (2)(3) فالله عز وجل له أسماء لا تحصى، منها اسم (الحفيظ) وله معنيان
(1) أخرجه مسلم: 3/ 1402
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير: 18/ 96، وانظر سير أعلام النبلاء الذهبي: 1/ 264
(3)
انظر: جامع العلوم والحكم ابن رجب 87
: الأول: حفظه لجميع ما يصدر من عباده؛ خيرا كان أو شرا. الثاني: حفظه لعباده من جميع ما يكرهون، وهو نوعان خاص: وعام.
العام: حفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها وتمشي به إلى هدايته، قال تعالى {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1)، وهذا يشترك به الحيوانات والناس، كالهداية للمأكل والمشرب وغيره.
الخاص: وهذا لا يكون إلا لأوليائه الذين حفظوه فيحفظهم مما يضر إيمانهم أو يزلزل يقينهم من الشبه أو الفتن أو الشهوات، ويحفظهم من أعدائهم ويدفع عنهم كيد الإنس والجن:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) وهذا عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم (3)
فالعبد إذا حافظ على ما فرضه الله عليه من الطاعات، وحافظ على حدود الله من الكبائر والموبقات باجتنابها، وحافظ على الأذكار والتي منها (أذكار الصباح والمساء ودخول الأماكن واللبث فيها والخروج منها، وأذكار النوم والأكل واللبس) حفظه سبحانه وتعالى في دينه ونفسه وعرضه وولده وأهله وماله من كل شر، ووقاه من كل ما يكره، وحفظه من الوقوع في المعاصي، فيكون في صحة وسعادة في الدنيا والآخرة محفوظا من البلاء، فهو في سرور وحبور.
(1) سورة طه الآية 50
(2)
سورة الحج الآية 38
(3)
انظر شرح أسماء الله الحسنى الشيخ سعيد القحطاني: 112 - 115