الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأله لله وعلى تغير هذه الفطرة.
وقد قرر الله عباده بما فطرهم عليه قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) فأقروا بذلك واعترفوا به لأنهم فطروا على العلم به فإن الله فطرهم على الحنيفية فكيف لا يعرفون ما قررهم به ويوافقون عليه؟ فاجتمع بذلك الفطرة والميثاق.
(1) سورة الأعراف الآية 172
المطلب الثاني: ضرورة الخلق إلى التأله لله وحده
لما كان التأله فطرة غريزية في العباد، وهم مفطورون بالتأله لله وحده، وكانت هذه الفطرة قد تتغير فيتألهون لغيره، فإن من أظهر ما يدل على بطلان هذا التغيير وسوأته وأنه تغيير وخلاف ما عليه الأصل اضطرار العباد للتأله لله وتعلق حاجتهم بذلك تعلقا لازما لا فكاك له، وهذه الضرورة أدل شيء على أهمية التوحيد وأهمية معرفته والعمل به والدعوة إليه وأهمية دراسته.
وقد كتب ابن تيمية رحمه الله قاعدة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له فصل فيها وجوه ضرورة الخلق وشدة حاجتهم للتأله لله عز وجل وصل بها إلى تسعة وجوه شرح في كل منها معاني جليلة ظاهرة
الدلالة ثابتة الحجة قوية البرهان في بيان سهل مقنع (1) وأخذ ذلك عنه تلميذه ابن القيم فذكره في شيء من التهذيب وجعلها عشرة أوجه (2)
ونذكر خلاصة لذلك لا تغني كثيرا عن الوقوف على أصلها في كلام الشيخين رحمهما الله فنقول: كل مخلوق سوى الله فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك إلا بمعرفته بما ينفعه والوسيلة إلى حصوله، ومعرفته بما يضره والوسيلة إلى دفعه. فهذه أربعة أمور ضرورية للعبد لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها: أمر مطلوب ينتفع به ووسيلة تدله عليه وتدفعه إليه، وأمر مكروه يضره، ووسيلة تدله عليه وتدفعه عنه، وإرادة العبد وحركته متعلقة بهذه الأمور لتعلق وجوده وصلاحه بها، وهو يتوجه بحبه ورجائه وخوفه إلى مصادرها، فهو يحب جلب المنفعة، ويرجو المعين على حصولها، ويخاف منعه منها، ويحب دفع المضرة، ويرجو المعين على دفعها، ويخاف إيقاعها به، وهو يتوجه إلى مصادرها بلوازم المحبة والرجاء والخوف، فيحب ويؤدي لوازم المحبة، ويرجو ويؤدي لوازم الرجاء، ويخاف ويؤدي لوازم الخوف.
وإذا كان ذلك كذلك فقد تبين أن توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة هو المحقق لحاجة الخلق وضرورتهم، لأن الله هو الجامع لهذه الأمور الأربعة كلها، فهو خالق ما ينفع العبد وموجده، وهو الذي يهديه
(1) انظر في الفتاوى 1/ 20 - 36
(2)
انظر في إغاثة اللهفان ص 40 - 63.
إليه ويقدر له جلبه والحصول عليه أو منعه، وهو موجد ما يضره، وهو الذي يهديه إلى العلم به ويقدر له دفعه أو وقوعه، فإذا نظرت إلى هذا علمت أن الله هو المستحق للتوجه إليه بالحب والخوف والرجاء يطلب وجهه ويرجى رضاه ويخاف سخطه، وإذا ضممت إلى هذا النظر في أن الله هو خالق العبد أولا قبل النظر في أنه خالق نفعه وضره، علمت أن العبد مفتقر إلى الله لذاته لا لأمر آخر جعله مفتقرا إليه، بل فقره لازم له لا يمكن أن يكون غير مفتقر إليه، كما أن غناء الرب وصف لازم له لا يمكن أن يكون غير غني، فهو غني بنفسه لا بوصف جعله غنيا، وفقر العبد إلى الخالق وصف له لازم في حال عدمه ووجوده، ففي حال عدمه فهو مفتقر إلى الخالق فلا يوجد إلا به سبحانه، وما دام ذلك كذلك فالله هو الذي يجب أن يكون المطلوب المقصود لذاته، ووجهه وقربه ورضاه هو المطلوب المحبوب، وعبادته هي المعينة لحصول ذلك، وعبودية ما سواه والالتفات إليه والتعلق به هو المكروه الضار، وعبادة الله هي المعينة على دفع هذا الضار المكروه، وعبادته سبحانه هو الذي يعين عليها بدلالتي التوفيق والإرشاد، ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب.
ولكن الخلق إذا فسدت فطرهم يجتالهم عن إخلاص العبادة لله إلى صرفها أو شيء منها لسواه ما يباشرونه من نفع يحصلونه من السوى أو
(1) سورة الفاتحة الآية 5
ضر يندفع عنهم بالسوى، فيلتفتون إلى ما يباشرونه عن خالق النفع والضر وخالق أسباب حصولها أو اندفاعها ومقدر ذلك سبحانه. وعندئذ ينبغي على العبد أن ينتبه عند طلب حصول النفع أو الضر إلى أمور:
أولها: أن الله هو الذي يعلم ما يصلح العبد وما يضره {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) هو أعلم بذلك من علم العبد لنفسه، ولا يعلم مخلوق ذلك إلا على سبيل الظن، وهو قبل ذلك لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة فعاد الأمر كله لله سبحانه.
الثاني: أن الله هو النافع الضار والمخلوق ليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا عز ولا ذل، بل الله وحده هو الذي له ملك ذلك، وإذا وقع من المخلوق من نفع أو ضر فبإذن الله وخلقه.
الثالث: أنه ليس هناك جهة تطمئن النفس بالتوجه إليها وتسكن إلا الله عز وجل الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، يده سحاء الليل والنهار الصمد السيد سبحانه، والمخلوق لا يدوم نفعه فهو في ذاته إلى عدم، وينفع في حال دون حال، وهو لا يقدر على النفع دائما ولا يقدر على كل نفع، يأتي منه نفع في شيء ويعجز عن آخر، أما الله فلا بد للعبد منه في كل حال وفي
(1) سورة الملك الآية 14
كل وقت وأينما كان فهو معه.
الرابع: أن الله غني عن العبد فهو يحسن إليه لا لمنفعة ترجع إليه سبحانه، ولا مع مضرة عليه سبحانه، ولكن رحمة وتفضلا، أما المخلوق فلا يحسن إلا لحظ نفسه، ولا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، فالخلق إنما يحسن بعضهم لبعض لحاجتهم إلى ذلك وانتفاعهم عاجلا أو آجلا، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن أحد إلى أحد فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى الوصول إلى نفع ذلك الإحسان إما بجزاء ومعاوضة أو حتى طلب الثناء والمدح والشكر، أما الرب سبحانه فكما قال:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (1) وقوله في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه (2)» فاتضح مما تقدم ضرورة العباد إلى توحيد الله سبحانه بل إن حاجتهم إلى ربهم في توحيدهم إياه كحاجتهم إليه في خلقه لهم ورزقه إياهم بل أعظم، وليعلم أن حاجة العباد إلى أن يوحدوا الله لا نظير لها فتقاس عليه وأن العبد كلما كان أتم توحيدا لله كان أقرب إليه وأكثر إعزازا وتعظيما لقدره، فأسعد الخلق
(1) سورة الإسراء الآية 7
(2)
مسلم 4/ 1994 رقم 2577.