الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما بقية الجوارح فيكون شكر الله بها عن طريق استخدامها في طاعة الله وتجنيبها المعاصي، فمثلا شكر العينين غضهما عن محارم الله تعالى، وعن عيوب الناس، وحثهما على قراءة المصحف وكتب العلم، وشكر الأذنين صرفهما عن سماع عيوب الناس، وعما لا يحل سماعه من الأغاني والمعازف وغيرها واستخدامهما بالطاعات وسماع القرآن والعلم النافع، وشكر اليدين كفهما عن أموال الناس، من شكر اليدين الإنفاق وكتابة العلم النافع واستعمالهما بما ينفع نفسه وغيره، وشكر الرجلين كفهما عن المشي في معصية الله (1) وحثهما على المشي إلى ما فيه مرضاة الله سبحانه. فجميع العبادات التي أوجبها الله علينا إنما وجبت شكرا على النعم فالله سبحانه غني عنا مغن لنا فنحن المحتاجون إليه.
(1) انظر: حدائق الحقائق الرازي: 134.
دفع الشكر للبلاء قبل وقوعه:
الحمد والشكر سبب لزيادة النعم ودفع البلاء والنقم، فالنعمة طير والشكر جناحاها، فإذا شكرت النعمة قرت وإذا كفرت فرت، قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) فكما أن هذه الآية دليل على أن الشكر لزيادة النعم فهي دليل على أن كفر النعم سبب لزوالها لأنه سبحانه قال: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (2) ونعم الله على الناس
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2)
سورة إبراهيم الآية 7
كثيرة، فقد أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وخلقهم في أحسن تقويم وأعطاهم الأعضاء المختلفة الوظائف من أبصار وأسماع، وكل ذلك إنعاما محضا من غير أن يسبق من العبد ما يوجب استحقاقه شيئا من نعم الله. ومقابل ذلك يجب عليهم الاستقامة على طريق الإسلام، والقيام بأوامر الله واجتناب نواهيه وهذا هو الشكر. ليكون عمل كل عضو شكرا لم أنعم عليه في ذلك، ومنها نعمة المفاصل اللينة والجوارح المنقادة التي بها يقدر على استعمالها في الأحوال المختلفة من القيام والقعود والركوع والسجود، والصلاة تشتمل على هذه الأحوال، فأمرنا باستعمال هذه النعم الخاصة في هذه الأحوال، في خدمة المنعم شكرا لهذه النعمة، وشكر النعمة فرض عقلا وشرعا، ومنها أن الصلاة وكل عبادة خدمة للرب – جل جلاله – وخدمة المولى على العبد لا تكون إلا فرضا، والعزيمة هي شغل جميع الأوقات بالعبادات بقدر الإمكان (1)؛ لأن العبد في أوقات ليله ونهاره لا يخلو من ذنب أو خطأ أو زلة تقصير في العبادة وقد سبق إليه من الله – تعالى – من النعم والإحسان، ولو أراد أحد شكر ذلك كله لم يقدر على أداء شكر واحد منها فضلا عن أن يؤدي شكر الكل فيحتاج العبد إلى تكفير ذلك التقصير في الشكر إذ هو فرض عليه، لذا فرضت الصلوات الخمس تكفيرا لذلك (2) وكذا فإن
(1) انظر: كتاب بدائع الصنائع الكاساني: 1/ 90.
(2)
انظر: كتاب بدائع الصنائع الكاساني: 1/ 91.
الصوم وسيلة إلى شكر النعمة، إذ هو كف النفس عن الأكل والشرب والجماع، وهذه من أجل النعم والامتناع عنها زمانا يبين قدرها فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر وشكر النعم فرض عقلا وشرعا وإليه أشار الرب تعالى في قوله في آية الصيام:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)(2) وهناك أنواع من العبادة كالصدقة والتلاوة تعد من وسائل شكر الله تعالى (3) ولأن توفية شكر الله – تعالى – صعبة، كما تقدم لذا لم يثن – سبحانه – بالشكر على أحد من أوليائه (4) إلا على اثنين هما نوح وإبراهيم عليهما السلام، قال تعالى عن نوح عليه السلام:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (5)، وقال عن إبراهيم عليه السلام:{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6)(7) فعلى العبد المداومة على الشكر لا لحاجة الله إليه ولكن لينال به المزيد من فضله، فجعل كفران نعمه والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنه وأمره بذكره ليذكره بإحسانه فجعل نسيانه سببا لنسيان الله له
(1) سورة البقرة الآية 185
(2)
انظر التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح الكاندهلوي: 2/ 368.
(3)
المصدر السابق: 2/ 368.
(4)
قال تعالى: (وقليل من عبادي الشكور).
(5)
سورة الإسراء الآية 3
(6)
سورة النحل الآية 121
(7)
انظر روح المعاني لأبي الثناء محمود الألوسي: 13/ 189.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)، {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) لقد أمر الله العبد بسؤاله ليعطيه فلم يسأله بل أعطاه أجل العطايا بلا سؤال، فلم يقبل ولم يرض بل شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه ويتظلم ممن لا يظلمه إلى من يظلمه (3) وذكر ابن القيم أن الشكوى نوعان: شكوى بلسان المقال، وشكوى بلسان الحال وهي أشدها، فيظهر وملابسه مهترئة مدعيا الفقر (4) ولو نظر ابن آدم لنعم الله في نفسه لشكره وما كفره، قال صلى الله عليه وسلم:«من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا (5)»
ويؤدي المسلم شكر يومه إذا قال حين يصبح: «اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى
(1) سورة الحشر الآية 19
(2)
سورة التوبة الآية 67
(3)
انظر: مدارج السالكين ابن القيم: 2/ 193.
(4)
انظر: عدة الصابرين ابن القيم: 125.
(5)
أخرجه ابن ماجه: 2/ 1387، وابن حبان: 2/ 446، والطبراني في الأوسط 2/ 230، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10/ 289: رواه الطبراني ووثقوا على ضعف في بعضهم.