الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولسعيد بن جبير! كلما أردت النوم أخذ برجلي (1)
(1) انظر حلية الأولياء أبي نعيم الأصبهاني: 4/ 294.
المبحث الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المسلم مأمور بتوقي البلاء والفتن التي تقع في الدين أو ما يصيب الأبدان من أمراض أو موت أو نقص من الأموال باتخاذ الأسباب المشروعة الدافعة لذلك والمانعة له، ومن هذه الأسباب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي ميز الله تعالى به هذه الأمة دون غيرها من الأمم، فقال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وذم بني إسرائيل بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) وحث الله سبحانه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من سبيل الفلاح، فما من أمة كثرت موبقاتها لقلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلا كان ذلك إيذانا من الله بقرب هلاكها، يقول تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2)
سورة المائدة الآية 79
(3)
سورة آل عمران الآية 104
أي لتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون، وهم خاصة الصحابة وخاصة الرواة، يعنى المجاهدين والعلماء، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (1)(اتباع القرآن وسنتي)(2)
والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (3)» (4) فإن لم يستطع أي التغيير باليد وإزالته بالفعل لكون فاعله أقوى منه - فبلسانه، أي فليغيره بالقول وتلاوة ما أنزل الله من الوعيد عليه وذكر الوعظ والتخويف والنصيحة (فإن لم يستطع) فبقلبه بأن لا يرضى به وينكر في باطنه على متعاطيه، فيكون تغييرا معنويا؛ إذ ليس في وسعه إلا هذا (5) وهما واجبان على الكفاية على هذه الأمة، يقول شيخ
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2)
أورده ابن كثير في تفسيره: 1/ 391.
(3)
أخرجه مسلم 1/ 69.
(4)
انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 391.
(5)
عون المعبود لأبي الطيب آبادي 11/ 330.
الإسلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (فالدعاء إلى الله هو الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، وقد تبين أنهما واجبان على كل فرد من أفراد المسلمين وجوب فرض الكفاية، لا وجوب فرض الأعيان كالصلوات الخمس، بل كوجوب الجهاد والقيام بالواجبات من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها، كما جاء في الحديث، ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يكون فقيها فيما ينهى عنه، فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود، والحلم بعد الأمر ليصبر على أذى المأمور المنهي؛ فإنه كثيرا ما يحصل له الأذى بذلك؛ ولهذا قال تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1)، وقد أمر نبينا بالصبر في مواضع كثيرة، كما قال تعالى في أول المدثر:{قُمْ فَأَنْذِرْ} (2){وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3){وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (4){وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (5){وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (6){وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (7) وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (8)
(1) سورة لقمان الآية 17
(2)
سورة المدثر الآية 2
(3)
سورة المدثر الآية 3
(4)
سورة المدثر الآية 4
(5)
سورة المدثر الآية 5
(6)
سورة المدثر الآية 6
(7)
سورة المدثر الآية 7
(8)
سورة الطور الآية 48
وقال {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} (1)(2) وقال عمير بن حبيب وكان قد بايع النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر على الأذى، وليثق بالثواب من الله تعالى فإنه من وثق بالثواب من الله عز وجل لم يضره مس الأذى (3)» (فإن لم يستطع أن يقوم بالواجب ولم يقم غيره به صار الجميع مستحقين العقوبة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه (4)» وقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (5)» فلا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك جالب لمقت الله عز وجل وعذابه.
(1) سورة المزمل الآية 10
(2)
مجموع الفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 15/ 167.
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير: 17/ 50، والأوسط: 2/ 370، والبيهقي في الكبرى 10/ 95، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 266: (رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات).
(4)
أخرجه أبو داود: 4/ 144، والترمذي: 4/ 467، وقال:(حديث صحيح)، والنسائي في الكبرى: 6/ 338، وابن حبان: 2/ 465، وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي في الأحاديث المختارة: 1/ 147: (رواه أحمد بن منيع وعبد بن حميد عن يزيد بن هارون في مسنديهما، إسناده صحيح).
(5)
أخرجه مسلم 1/ 69.
ومن العقوبات التي تترتب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1 -
اللعن من الله.
2 -
السحت بالعذاب.
3 -
تأمير شرار القوم.
4 -
ضرب القلوب بعضها ببعض.
قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على أيدي المسيء ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم (2)» قال صلى الله عليه وسلم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم (4)» قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشك الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعون فلا يستجاب لكم (5)» فالأمر بالمعروف
(1) أخرجه أبو داود: 4/ 122، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 269 (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).
(2)
تأطرنه: (أي تعطفوه عليه) النهاية ابن الأثير 1/ 53. (1)
(3)
أخرجه أحمد: 5/ 390، والطبراني في الأوسط: 2/ 99، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 266:(رواه الطبراني في الأوسط، والبزار، وفيه حيان بن علي وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه في غيرها).
(4)
(3) الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم
(5)
أخرجه الترمذي: 4/ 468، وقال (حديث حسن)، وابن ماجه: 2/ 1327، وأحمد: 5/ 391، والبيهقي في الكبرى: 10/ 93، وقال الألباني في سنن الترمذي 302169:(حسن)، وفي رواية:(ليسلطن عليكم شراركم) أخرجه أحمد: 5/ 390، والطبراني في الأوسط: 2/ 99، 5/ 388.
والنهي عن المنكر يدفع العذاب، والتقاعس عنه يوجب غضب الله عز وجل، ومعلوم أن من أسباب رفع البلاء الدعاء، لكن من تهاون بالأمر بالمعروف فحل به البلاء فإن دعاءه لرفع هذا البلاء محجوب، يقول السيوطي:«قبل أن تدعو فلا يستجاب لكم (1)» أي قبل أن ينزل عليكم البلاء بسبب المعاصي. وفيه إشعار أنه لا بد للعلماء أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وإلا فهم أيضا شركاء في الوزر) (2)
(لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون على بصيرة، وله شروط، وعلى درجات)(3)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبه، يقول الإمام النووي (وأما صفة النهي ومراتبه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (4)» فقوله صلى الله عليه وسلم: (فبقلبه) معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو
(1) سنن الترمذي الفتن (2169).
(2)
شرح سنن ابن ماجه السيوطي: 289.
(3)
انظر مجموع الفتاوى ابن تيمية: 32/ 22، 35/ 32، 14/ 472.
(4)
أخرجه مسلم 1/ 69.
الذي في وسعه، وقوله صلى الله عليه وسلم:«وذلك أضعف الإيمان (1)» معناه والله أعلم: أقله ثمرة، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به؛ قولا كان أو فعلا، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلكم من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر أغلاظه بأشد مما غيره لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب على
(1) صحيح مسلم الإيمان (49)، سنن الترمذي الفتن (2172)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008)، سنن أبي داود الصلاة (1140)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275)، مسند أحمد (3/ 10).
ظنه أن تغييره بيده يسبب أشد منه من قتله أو قتل غيره بسببه، كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل (ما تسببه يده) فبقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان، ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره أو يقتصر على تغييره بقلبه. هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى.
هذا آخر كلام القاضي رحمه الله. قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح) (1) وإلى ذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: (ترك الإنكار باليد أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر)(2)
فالواجب على العبد (أن يفرق بين ما يفعل الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه لم ينه عنه ولم يبحه أيضا؛ ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك
(1) شرح النووي على صحيح مسلم: 1/ 25.
(2)
مجموع الفتاوى ابن تيمية: 35/ 32.