الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والطغيان الذي يشتعل في قلوبهم ويستعر فيها، ولأنهم أيضا يعيشون انحطاطا خلقيا وانهزاما نفسيا لا يملكون معه إلا أن يصموا به أهل التقوى والعفة والطهارة، فإنهم لما فقدوا عزتهم وطهارة أعراضهم كبر عليهم أن يروا غيرهم خيرا منهم.
الوقفة الخامسة:
مع الأحكام الشرعية:
يستفاد من آيات الإفك وما ورد في سبب نزولها أحكام عدة؛ منها:
1.
أن القذف جريمة عظيمة وفعلة شنيعة تترك أثرها على المقذوف وعلى أهله وعلى من يحيط بهم، وتهدد ترابط المجتمع ووحدته، وتوغر الصدور، وتسبب العداوة والبغضاء، ولأجل هذا حرم الإسلام القذف بدون بينة وعد ذلك من كبائر الذنوب، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) * {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) * {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (3)، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات - وعد منها: قذف المحصنات
(1) سورة النور الآية 23
(2)
سورة النور الآية 24
(3)
سورة النور الآية 25
الغافلات المؤمنات (1)»
2.
يشترط لصحة القذف إقامة البينة؛ وهي أربعة شهداء كلهم يصف الزنا بحقيقته المعروفة، فإن لم يقدر القاذف على ذلك استحق حد القذف، واشتراط هذا العدد من الشهداء خاص بحد الزنا دون غيره؛ إذ لا يشترط هذا العدد في شيء آخر من الحدود أو الحقوق البدنية أو المالية.
3.
تحريم القذف بدون بينة ولو كان القاذف صادقا؛ لقوله عز وجل: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (2)، فمن قذف وعجز عن إقامة البينة فهو في حكم الله كاذب ولو كان في نفس الأمر صادقا، ويلزمه لتمام توبته من القذف أن يكذب نفسه أمام الناس، لأن براءة عرض المقذوف لا تحصل إلا بذلك. فإن قيل: كيف يكذب نفسه وهو صادق؟ فالجواب أن يقال: إن الكذب نوعان؛ كذب سببه كون المخبر به مخالفا للواقع، وهو قسمان: عمد وخطأ؛ فالعمد ظاهر، والخطأ كقوله صلى الله عليه وسلم:«كذب أبو السنابل (3)» حين أفتى بغير الصواب. والنوع الثاني: كذب سببه كون المخبر به لا يجوز الإخبار به وإن كان مطابقا للواقع، كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا فإنه كاذب عند الله تعالى. (4)
(1) أخرجه البخاري 3/ 1017 ح 2615، ومسلم 1/ 92 ح 89.
(2)
سورة النور الآية 13
(3)
مسند أحمد (1/ 447).
(4)
انظر: مدارج السالكين 1/ 371.
4.
اختلف أهل العلم هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك على ثلاثة أقول؛ أولها: أنه لم يحد أحدا منهم، لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين وقد أخبره بكفرهم.
قال القرطبي منكرا هذا القول: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (1)؛ أي على صدق قولهم {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2). (3)
والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك؛ عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. وفي ذلك قال شاعر:(4)
لقد ذاق حسان الذي كان أهله
…
وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية
…
كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم
…
وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا
وعزا الصنعاني إلى الحاكم في الإكليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حد عبد الله بن أبي من جملة القذفة. (5)
(1) سورة النور الآية 4
(2)
سورة النور الآية 4
(3)
انظر: مدارج السالكين 1/ 371، تفسير القرطبي 12/ 134.
(4)
وانظر: سبل السلام 4/ 34.
(5)
وانظر: سبل السلام 4/ 34.
والقول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد عبد الله بن أبي، وحد الباقين - وهذا هو المشهور عند أهل العلم، وهو الراجح، لقول عائشة رضي الله عنها:«لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم (1)» . ووقع عند أبي داود تسميتهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. (2)
وقد ذكر أصحاب هذا القول أعذارا في تركه صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على ابن أبي، مع أنه كان رأس أهل الإفك؛ فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، وهو منافق خبيث ليس أهلا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد. وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة، وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين. وقيل: حد القذف حق لآدمي لا يستوفى إلا بمطالبته، وعائشة لم تطالب به ابن أبي. وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا، وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام؛ فإنه
(1) أخرجه أبو داود 4/ 162 ح 4474، والترمذي 5/ 336 ح 3181، وابن ماجه 2/ 857 ح 2567، والإمام أحمد 6/ 35 ح 24112.
(2)
انظر: سنن أبي داود 4/ 162 ح 4475.
كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم، فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده. قال ابن القيم: ولعله ترك لهذه الوجوه كلها (1)
5.
أجمع أهل العلم على أن من سب عائشة رضي الله عنها ورماها بما رميت به بعد أن برأها الله عز وجل بهذه الآيات فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. (2) قال الإمام مالك رحمه الله: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن الله تعالى يقول:{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3)، فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. (4)
أما قذف بقية أمهات المؤمنين فاختلف العلماء فيه على قولين، والصحيح أن ذلك كفر لما فيه من النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن في عرضه، وذلك كفر. قال الآلوسي: وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن؛ لأن الله عز وجل رتب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن طيبات، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد، وأما
(1) زاد المعاد: 510.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير 3/ 276.
(3)
سورة النور الآية 17
(4)
انظر: تفسير القرطبي 12/ 137.
من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقا غير ظاهر، والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحا أو قاصدا الطعن به عليه الصلاة والسلام، كابن أبي لعنة الله تعالى؛ فإن ذلك مما يقتضي إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك، كحسان ومسطح وحمنة، فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين، وإنما قالوا ما قالوا تقليدا فوبخوا على ذلك توبيخا شديدا. (1)
6.
دل قوله تعالى {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (2) على أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه الخبر المحتمل وإن شاع وانتشر إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا. (3)
7.
قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4)، في هذه الآية دليل على أن كبائر الذنوب سوى الشرك لا تحبط العمل الصالح؛ لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح
(1) روح المعاني 18/ 127، وانظر: تفسير ابن كثير 3/ 276، حديث الإفك 339.
(2)
سورة النور الآية 12
(3)
انظر: تفسير القرطبي 12/ 135.
(4)
سورة النور الآية 22
وقذفه لعائشة من الكبائر، ولم يبطل هجرته، بل أثبتها الله له. (1)
8.
دلت الآيات على أن الإنسان يؤاخذ على عمل القلب إذا اطمأن إليه ورغب فيه وتمنى حصوله، فقد رتب عز وجل العذاب الدنيوي والأخروي على مجرد محبة شيوع الفاحشة، فقال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (2)، والمحبة عمل قلبي، ونظير هذا في الدلالة على هذا الحكم قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3)، فتوعد بالعذاب الأليم على مجرد الإرادة وهي عمل قلبي، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه (4)» فعلل الحكم بالحرص وهو عمل قلبي.
فإن قيل: أليس قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (5)» ؟ وهذا صريح في العفو عن
(1) انظر: تفسير القرطبي 12/ 138، أضواء البيان 6/ 162.
(2)
سورة النور الآية 19
(3)
سورة الحج الآية 25
(4)
أخرجه البخاري 1/ 20 ح 31، ومسلم 4/ 2214 ح 2888.
(5)
أخرجه البخاري 5/ 2020 ح 4968، ومسلم 1/ 116 ح 127.