الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
أحكام المجاهد في الجنايات
وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: أحكام المجاهد في القصاص
.
المطلب الثاني: قتل المجاهد نفسه في المعركة.
المطلب الثالث: قتل المجاهد نفسه في الأسر.
المطلب الأول
أحكام المجاهد في القصاص
وفيه نوعان:
الفرع الأول: القصاص من المجاهد في النفس.
الفرع الثاني: القصاص من المجاهد فيما دون النفس.
الفرع الأول
القصاص (1) من المجاهد في النفس
اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى فيما أعلم أن المجاهد إذا قتل نفسا مسلمة معصومة مكافئة له في الحرية عمدا بما يقتل غالبا وليس المقتول ابنًا له، وكان ذلك في دار الإسلام، فإنه يقتص منه، كغيره ممن يفعل ما يوجب قصاصا في النفس.
جاء في رحمة الأمة: (اتفقوا على أن من قتل نفسا مسلمة مكافئة له في الحرية ولم يكن المقتول ابنًا للقاتل، وكان في قتله له عمدًا وجب عليه القود)(2) .
واختلفوا في سقوط القصاص في النفس عن المجاهد إذا كان في أرض العدو إلى قولين:
القول الأول: أنه يقتص منه ولا يسقط عنه القصاص لكونه في أرض العدو، وبهذا قال المالكية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) وابن جزم (6) .
واستدلوا بما يلي:
1-
عموم الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب القصاص في النفس.
(1) القصاص في اللغة، مشتق من قص، الذي هو أصل في تتبع الشيء، ومنه اقتصصت الأثر إذا تتبعته قال تعالى:{فارتدا على آثارهما قصصا} [الكهف: 64] ثم غلب استعمال القصاص في قتل القاتل وجرح الجارح وقطع القاطع. انظر: معجم مقاييس اللغة
…
(5/11) مادة (قص) ولسان العرب (7/76) مادة (قصص) والقاموس المحيط (فصل القاف) ص (627) والمصباح المنير ص (506) مادة (قص) وفي الاصطلاح: أن يفعل المجني عليه، أو وليه بالجاني مثل ما فعل، انظر: المطلع على أبواب المقنع ص (359) والتعريفات للجرجاني ص (225) .
(2)
رحمة الأمة ص (460) وانظر كذلك زبدة الأحكام لسراج الدين الهندي ص (275) والإجماع لابن المنذر ص (102) .
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة (1/470) ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل (4/551) والذخيرة (3/411) .
(4)
الأم (4/248) وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء للقفال (7/671) .
(5)
المغني (13/72) والشرح الكبير لشمس الدين أبي الفرج (5/181) .
(6)
المحلى بالآثار (10/239) .
فمن الكتاب الكريم:
أ- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .
ب- وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
…
[المائدة: 45]
ومن السنة:
أ- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» (1) .
ب- عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث طويل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم «ومن قتل عمدا فهو قود (2) ..» (3) .
2-
ولأنه قتل من يكافئه عمدا ظلما فوجب القود، كما لو قتله في دار الإسلام (4) .
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الديات باب قوله تعالى:{أن النفس بالنفس} ح رقم
…
(6878) وصحيح مسلم مع شرح النووي، كتاب القسامة باب ما يباح به دم المسلم، ح رقم (1676) .
(2)
القود: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل، انظر: المطلع على أبواب المقنع ص (357) والمصباح المنير ص (519) .
(3)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الديات، باب من قتل في عمياء بين قوم، ح رقم
…
(4539) والنسائي في سننه مع شرح السيوطي، كتاب القسامة، باب من قتل بحجر أو سوط، ح رقم (4803) وح رقم (4804) وابن ماجة في سننه مع شرح السندي، كتاب الديات باب من حال بين ولي المقتول وبين القود أو الدية، ح رقم (2635) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الجراح باب من قال موجب العمد القود ح رقم
…
(16044) .
قال ابن حجر: أخرجه أبو داود والنسائي، وابن ماجة بإسناد قوي، انظر: بلغو المرام مع شرحه سبل السلام (3/491) كتاب الجنايات ح رقم (1097) .
(4)
الشرح الكبير لشمس الدين أبي الفرج (5/181) .
وقد اختلف أصحاب هذا القول في مكان إقامة حد القصاص هل يكون في أرض العدو، أم بعد الرجوع إلى أرض الإسلام؟ وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في مبحث إقامة الحدود في أرض الحدود.
القول الثاني: يسقط القصاص عن المجاهد في أرض العدو إذا لم يكن الإمام مع الجيش، وبهذا قال الحنفية (1) .
واستدلوا بما يلي:
1-
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «لاتقام الحدود في دار الحرب» (2) .
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا الحديث حقيقة عدم الإقامة حسا، لأنه كل واحد يعرف أنه لا يمكن إقامة الحدود في دار الحرب لانقطاع ولاية الإمام عنها، فكان المراد بعدم الإقامة عدم وجوب الحد ولا يجب بعد ذلك إذا خرجنا إلى دارنا (3) .
نوقش هذا الحديث: بأنه غير ثابت ولا أصل له (4) قال ابن الهمام (5) من الحنفية: (لا يعلم له وجود)(6) .
وعلى فرض ثبوته فلا دليل فيه على سقوط القصاص في النفس عن المجاهد في أرض العدو، وذلك من وجهين:
(1) بدائع الصنائع (6/113) وفتح القدير (5/47) والمبسوط (9/100) .
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب السير، باب من زعم لا تقام الحدود في أرض الحرب حتى يرجع، ح رقم (18225) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وزاد فيه
…
(.. مخافة أن يلحق أهلها بالعدو) وقال ابن الهمام عن الحديث: لا يعلم له وجود. انظر: فتح القدير (5/46) .
وقد بحثت عنه فلم أجده حسب ما اطلعت عليه بنص لا تقام الحدود في دار الحرب فقط، وإنما مع زيادات تدل على تأجيل الحد لا سقوطه، كما عند البيهقي.
(3)
المبسوط (9/100) وشرح الهداية على العناية بهامش فتح القدير (5/46) .
(4)
الحدود والتعزيرات عند ابن القيم د/ بكر أبو زيد (ص 63) .
(5)
هو: كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، العالم الحنفي المعروف بابن الهمام، ولد بالإسكندرية سنة (790هـ) وقيل: غير ذلك، ثم رحل إلى القاهرة وحلب، ثم إلى مكة، ثم عاد إلى مصر، له باع في الفقه والأصول، والتفسير، والفرائض، والجدل والمناظرة، من مؤلفاته فتح القدير، وهو شرح للهداية، والتحرير في أصول الفقه، والمسايرة في العقائد المنجية، وغيرها، توفي بالقاهرة في رمضان سنة 861 هـ انظر: الأعلام (6/255) ومعجم المؤلفين (3/469) ت رقم (14444) .
(6)
فتح القدير (5/46) .
الوجه الأول: أن الحنفية أوجبوا القصاص على المجاهد إذا كان الإمام خارجا مع الجيش.
وهذا الحديث ينافي ما ذهبوا إليه (1) .
الوجه الثاني: أن عدم إقامة حد القصاص في دار الحرب لا يستلزم سقوطه، بل يحتمل التأخير إلى القفول من الغزو ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، بل معناه في تأخير الحد أظهر لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بذلك (2) .
2-
تعذر إقامة القصاص على المجاهد لانقطاع ولاية الإمام، فإن وجوب إقامته مشروطة بالقدرة، والإمام لا قدرة له على من تلبس بما يوجب القصاص في دار الحرب، فلا قصاص (3) .
أما إذا كان الإمام مع الجيوش، فإن له إقامة الحدود، ويمكنه القصاص بما له من القوة والشوكة باجتماع الجيوش وانقيادها له، فكان لعسكره حكم دار الإسلام (4) .
نوقش هذا: بأن شرط إقامة الحد القدرة عليه مسلم بذلك، لكن ما الذي يسقط الحد بالكلية والمسلم إذا عاد إلى دار الإسلام صار تحت يد الإمام، فالقدرة تكون ثابتة عليه، ثم القول بعدم إقامة الحدود إهدار لمقتضيات النصوص الآمرة بإقامة الحدود (5) .
الترجيح
الذي يظهر أن الراجح ما ذهب إليه الجمهور من عدم سقوط القصاص في النفس عن المجاهد في دار الحرب لما يأتي:
1-
عموم الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب القصاص فلا يكون وجود المجاهد في دار الحرب مانعا لما أوجبته النصوص من القصاص.
2-
مناقشة ما استدل به الحنفية في إسقاط القصاص عن المجاهد وبيان ضعف ذلك.
3-
في إسقاط القصاص عن المجاهد وسيلة إلى قتل الأنفس البريئة وقد جاء القصاص لحفظ الأنفس قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] والله أعلم.
(1) الحدود والتعزيزات عند ابن القيم د/ بكر أبو زيد (ص63) .
(2)
الحدود والتعزيزات عند ابن القيم د/ بكر أبو زيد (ص 63) .
(3)
فتح القدير (5/47) وبدائع الصنائع (6/113) .
(4)
المبسوط (9/100) وفتح القدير (5/47) وبدائع الصنائع (6/114) .
(5)
الحدود والتعزيزات عند ابن القيم (ص 65) .