الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
التعامل بالربا
(1)
بين المجاهد والحربى (2) في أرض العدو
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في التعامل بالربا بين المجاهد والحربي في أرض العدو إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز التعامل مع العدو بالربا مطلقا، وبهذا قال جمهور الفقهاء (3) .
واستدلوا بما يلي:
1-
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] .
2-
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] .
(1) ربا الشيء يربوا ربوا زاد ونما، قال تعالى:{ويربى الصدقات} البقرة: 276فالربا: الفضل والزيادة انظر: لسان العرب (14/304) مادة (ربا) والمصباح ص 217 مادة (ربا)
وفي الاصطلاح: اختلف فيه الفقهاء لاختلافهم في العلة، والراجح ما عرفه به ابن قدامة بأنه الزيادة في أشياء مخصوصة. وهذا التعريف يشمل ربا الفضل وربا النسيئة، لأن الزيادة تشمل الزيادة الحسية في ربا الفضل والزيادة الحكمية في تأجيل الزمن في ربا النسيئة انظر: المغني (6/51) .
(2)
هو العدو المحارب يقال: أنا حرب لمن حاربني أي عدو. وفلان حرب فلان أي محاربه، وفلان حرب لي أي عدو محارب. انظر لسان العرب (1/303) مادة حرب.
وعند الفقهاء: من يحارب المسلمين من الكفار، سواء كانت المحاربة فعلية أو متوقعة، انظر: المطلع على أبواب المقنع ص 226 والاستعانة بغير المسلمين د/ الطريقي ص 131.
(3)
بدائع الصنائع (4/416) والاختيار للموصلي (2/33) والمدونة (4/271) والأم (7/358) وروضة الطالبين (3/397) والمغني (9/98) والإنصاف (5/52) والمحلى بالآثار (7/467) .
3-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .
ووجه الدلالة من الآيات: أن الأمر بترك الربا والنهي عنه والوعيد لمن أخذه جاء في الآيات عاما، لم يخصص بمكان ولا زمان ولا أشخاص، فيبقى العموم على عمومه، فيتناول المسلم مع الحربى (1) .
4-
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)(2) .
5-
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق (3) بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء» (4) .
6-
عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين» (5) .
ووجه الدلالة من الأحاديث السابقة: أن الأحاديث جاءت عامة على تحريم الربا، فتبقى على عمومها في سائر الأمكنة والأزمنة وعلى كل الأشخاص، فتشمل المسلم مع الحربي (6) .
7-
أن كل ما كان حراما في دار الإسلام، كان حراما في دار الحرب، كسائر الفواحش والمعاصي (7) فالربا يبقى على حرمته.
(1) حاشية الروض المربع (4/528) والمجموع (9/488) .
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب المساقاة باب لعن أكل الربا ومؤكله ح رقم (1598) .
(3)
الورق بكسر الراء: الفضة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/153) .
(4)
صحيح مسلم مع شرح النووي كتاب المساقاة باب الربا، ح رقم (77)(1584) وقد ورد بألفاظ مختلفة في رقم 75 (1584) 76- (1584) .
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب المساقاة، باب الربا، ح رقم (1585) .
(6)
حاشية الروض المربع (4/528) والمجموع (9/488) .
(7)
المغني (6/99) والمبدع (4/157) والمجموع (9/488) .
القول الثاني: يجوز للمجاهد أن يتعامل بالربا مع الحربي في دار الحرب، وبهذا قال الحنفية (1) وهو رواية عند الحنابلة بين المسلم والحربي الذي لا أمان بينهما (2) .
واستدلوا بما يلي:
1-
ما روي عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب» (3) .
ونوقش بما يلي:
أ- أن هذا الحديث ليس بثابت فلا حجة فيه (4) .
ب- أنه لو كان ثابتا لكان معارضا لإطلاق النصوص من الكتاب والسنة الواردة في تحريم الربا، فلا يجوز ترك تلك النصوص لخبر مجهول، لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به (5) .
6ج- يحتمل أن المراد بقوله (لا ربا) النهي عن الربا (6) كقوله تعالى:
…
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي كما هو محرم بين المسلمين، ويؤيد هذا الاحتمال العمومات من الكتاب والسنة في تحريم الربا كما سبق.
قال النووي رحمه الله لو صح حديث مكحول لتأولناه على أن معناه: لا يباح الربا في دار الحرب جمعا بين الأدلة (7) .
(1) بدائع الصنائع (4/416) الاختيار للموصلي (2/33) .
(2)
لمغني (6/99) والإنصاف (5/52) والمبدع (4/157) .
(3)
المغني (6/99) والمبدع (4/157) والمجموع (9/488) . أخرجه البيهقي في المعرفة كتاب السير، قال الزيلعي هذا غريب وقال الشافعي: ليس بثابت ولا حجة فيه، وقال النووي: حديث مكحول مرسل ضعيف فلا حجة فيه. انظر: نصب الراية (4/44) والأم (7/359) والمجموع (9/488) .
(4)
الأم (7/359) ونصب الراية (4/44) .
(5)
المغني (6/99) والمبدع (5/157) .
(6)
المغني (6/99) .
(7)
المجموع (9/488) .
2-
عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة يوم الوداع بعرفات (وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع (1) ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله..) (2) .
وجه الدلالة:
أن العباس رضي الله عنه بعدما أسلم رجع إلى مكة، وكانت حينئذ دار حرب، وكان يرابي فيها قبل نزول التحريم وبعده إلى زمن الفتح، فلو لم يكن الربا بين المسلم والمشرك حلالا في دار الحرب لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم وما قبض منه بعد ذلك مردود (3) لقوله تعالى:{فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278] .
ونوقش هذا:
بأنه لا دليل واضح يدل على أن العباس رضي الله عنه استمر بعد إسلامه في التعامل بالربا، ثم لو سلم ذلك، فإنه قد لا يكون عالما بالتحريم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ (4) .
3-
ولأن ما لهم مباح، فإذا أخذ برضاهم وطيب أنفسهم بالربا أخذ مالا مباحا (5) .
جاء في فتح القدير (ولو لم يرد خبر مكحول، أجازه النظر: أي كون ماله مباحا)(6) ونوقش هذا: بأنه لا يلزم من كون أموالهم مباحة بالاغتنام استباحتها بالعقد الفاسد، ولهذا أبيحت أبضاع نسائهم بالسبي، دون العقد الفاسد (7) .
(1) المراد بالوضع، الرد والإبطال ذلك فيما زاد على رأس المال. انظر: شرح صحيح مسلم (8/433) .
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ح رقم (1218) من حديث طويل.
(3)
المبسوط (10/28) وتكملة المجموع (10/488) .
(4)
تكملة المجموع (10/488) .
(5)
بدائع الصنائع (4/416) والاختيار للموصلي (2/33) والبحر الرائق (6/226) .
(6)
فتح القدير (6/178) .
(7)
المجموع للنووي (9/489) .
الترجيح
الذي يظهر بعد عرض الأقوال وذكر الأدلة ومناقشتها، أن الراجح قول الجمهور، أن الربا محرم بين المجاهد والحربي في دار الحرب وفي غير دار الحرب، لما يأتي:
1-
عموم الآيات الكريمة، ونصوص السنة المطهرة في تحريم الربا والوعيد الشديد لمن يتعامل به، ولم تفصل فتبقى الأدلة على عمومها.
2-
ولأن الربا كما هو محرم في حق المسلمين، محرم كذلك على الكفار وخاصة أهل الكتاب، قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 160، 161] .
فالأمم السابقة نهو عن الربا لما فيه من محق البركة، وإشعال نار الحقد والضغائن بين الناس. والله أعلم.