الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
إحراق المدن والزروع وقطع الأشجار ونحو ذلك
الحديث في هذا المطلب لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يحتاج المجاهدون إلى إحراق مدن العدو وزروعهم وقطع أشجارهم لكيفوا العدو عن القتال، أو يظفروا بهم.
وفي هذه الحالة لا أعلم لا خلافا بين الفقهاء في جواز ذلك (1) لما يأتي:
1-
حاجة المسلمين إلى ذلك لردع العدو والظفر بهم (2) .
2-
عموم الأدلة في جواز إحراق المدن وهدمها عليهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم وسيأتي ذكر بعض من هذه الأدلة في الحالة الثالثة إن شاء الله.
الحالة الثانية: أن يتضرر المجاهدون بحرق المدن والزروع وقطع الأشجار فيحرم فعل شيء من ذلك ولم أجد فيما أعلم خلافا بين الفقهاء (3) في هذه الحالة؛ لأن في ذلك ضررا على المجاهدين ودفع الضرر مقدم على جلب النفع.
الحالة الثالثة: أن لا يحتاج المجاهدون إلى إحراق المدن وإتلاف الزروع وقطع الأشجار ولا يتضررون بفعل شيء من ذلك، إلا أن في ذلك غيظا للكفار وإضرارا بهم (4) .
(1) المبسوط (10/31) وفتح القدير (5/197) وشرح السير الكبير (1/33) والكافي في فقه أهل المدينة (1/467) والمدونة (2/8) والمعونة (1/603) وروضة الطالبين
…
(10/258) والأحكام السلطانية ص 108 ومشارع الأشواق (2/1024) والمغني
…
(13/146) والإنصاف (4/127) والمحلى بالآثار (5/345) .
(2)
روضة الطالبين (10/258) والأشباه والنظائر للسيوطي ص 174 والمغني (13/146) والإنصاف (4/128) .
(3)
فتح القدير (5/198) وشرح السير الكبير (1/126) والمدونة (2/8) والمغني
…
(13/146) والإنصاف (4/127) ومشارع الأشواق (2/1042) .
(4)
المغني (13/146) والإنصاف (4/127) والمبسوط (10/32) وشرح السير الكبير
…
(1/42) وبدائع الصنائع (6/63) والمعونة (1/603) ومشارع الأشواق (2/1024) .
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في هذه الحالة إلى قولين:
القول الأول: يجوز إحراق مدن الكفار حال القتال وزروعهم وقطع أشجارهم وكل ما فيه غيظهم والنكاية به، وبهذا قال الجمهور (1) .
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1-
قوله تعالى: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .
وجه الدلالة: أن المجاهدين في سبيل الله لا يطئون أرض الكفار ولا ينالون منهم نيلا بإتلاف مال أو قتل نفس، إلا كتب لهم بذلك عمل صالح قد ارتضاه الله لهم (2) . وإذا كان الأمر كذلك جاز فعل ما فيه غيظ للكفار، وعمل صالح يثابون عليه.
2-
قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] .
قال قتادة (3) :
كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها وتخرب اليهود من داخلها (4) وجاء في تفسير هذه الآية ما يفيد أن المسلمين كانوا يخربون هذه البيوت لزيادة النكاية في العدو وإغاظتهم وقطع أملهم في البقاء (5) .
(1) المبسوط (10/31) وبدائع الصنائع (6/62) وشرح السير الكبير (1/33) والكافي في فقه أهل المدينة (1/467) والمدونة (2/8) والمعونة (1/603) والأم (4/243) وروضة الطالبين (10/258) والإنصاف (4/127) والمغني (13/146) والمحلى بالآثار (5/345) .
(2)
جامع البيان للطبري (6/511) .
(3)
هو: قتادة بن دعامة أبو الخطاب السدوسي البصري، الضرير من الأئمة التفسير والحديث، له باع في الفقه واختلاف العلماء، ثقة مأمون، كان يقول بشيء من القدر، مات سنة 117 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/269) ت رقم (132) وطبقات ابن سعد (7/229) .
(4)
جامع البيان للطبري (12/29) .
(5)
أحكام القرآن لابن العربي (4/207) وزاد المسير لابن الجوزي (8/205) .
3-
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة (1) فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] ) (2) .
قال النووي: وفي هذا الحديث دليل على جواز قطع شجر الكفار وإحراقه (3) .
4-
ولأن ذلك من باب القتال، لما فيه من كبت العدو وقهرهم وغيظهم (4) .
القول الثاني: لا يجوز إحراق المدن والزروع وقطع الأشجار في قتال الكفار، وبهذا قال الأوزاعي (5) والليث بن سعد (6) وأبو ثور (7) وهو رواية عند الحنابلة (8) .
(1) موضع منازل النضير وهم اليهود الذين غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد، وهي شرق العوالي من ظهر المدينة. انظر: معجم البلدان (1/607) ت رقم (2258) .
(2)
صحيح البخاري مع الفتح كتاب التفسير باب قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة} ح رقم (4884) وفي كتاب الجهاد والسير باب حرق الدور والنخيل مختصرا ح رقم (3021) وصحيح مسلم بشرح النووي كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار ح رقم (1746) .
(3)
شرح صحيح مسلم (11/295) .
(4)
بدائع الصنائع (6/63) والمبسوط (10/32) .
(5)
هو: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد أبو عمرو الأوزاعي، عالم أهل الشام ولد سنة 88 هـ ثقة مأمون صدوق كثير الحديث والعلم والفقه، توفي سنة 157 هـ انظر: سير أعلام النبلاء (7/107) وطبقات ابن سعد (7/488) .
(6)
هو: الليث بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفهمي، مولى خالد بن ثابت الإمام الحافظ عالم ديار مصر، ولد بمصر سنة 94 هـ ثقة صدوق كثير الحديث استقل بالفتوى في زمانه توفي سنة 175 هـ انظر: سير أعلام النبلاء (8/136) وطبقات ابن سعد (7/517) .
(7)
هو: إبراهيم بن خالد، أبو ثور الكلبي البغدادي الإمام الحافظ المجتهد مفتي العراق ولد سنة 170 هـ أخذ عن الشافعي ثقة مأمون أحد أئمة الفقه والعلم والورع في زمانه توفي في بغداد سنة 240 هـ انظر: سير أعلام النبلاء (12/72) والفهرست لابن النديم ص (261) .
(8)
المغني (13/146) والإنصاف (4/127) .
واستدلوا بحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته ليزيد بن أبي سفيان (1) حين بعثه على جيش إلى الشام جاء فيه (..ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلا، ولا تفرقنه..)(2) .
وجه الدلالة: أنا أبا بكر رضي الله عنه نهى قائد الجيش يزيد أن يحرق، أو يقطع ما فيه ثمر ونحو ذلك من أشجار الكفار، أو يخرب شيئا من بيوتهم وأبو بكر رضي الله عنه ما قال ذلك إلا وعنده ما يؤيد ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله.
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
1-
أن ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه محمول على أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فتح الشام، فكان على يقين من أنها تفتح فتكون غنيمة للمسلمين وتخريبها وحرقها وقطع شجرها فيه ضرر للمسلمين، لا أنه يرى ذلك محرما، لأنه قد حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم تحريقه نخل بني النضير وكروم أهل الطائف وغير ذلك (3) .
2-
أنه محمول على أن والي المسلمين يجوز له أن ينهي القائد والجند في حال القتال عن أمور يرى أن فيها مصلحة للمسلمين، والحكم في مصلحة المسلمين موكل إليه (4) .
الترجيح
الذي يظهر أن القول الأول الذي يجيز تحريق مدن العدو وزروعهم وقطع أشجارهم هو أقرب للرجحان لما يأتي:
1-
قوة ما استدلوا به.
2-
أن في ذلك غيظا للكفار وأجرا وثوابا للمجاهدين كما هو ظاهر الآية: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .
إلا أنه يرجع في ذلك إلى إذن الإمام فإن أذن بذلك لمصلحة رآها وظهرت له جاز تحريق مدنهم وزروعهم وقطع أشجارهم ونحو ذلك، وإن نهى الإمام عن فعل شيء من ذلك لم يجز فعل شيء من ذلك، لأنه نهى عن ذلك لمصلحة ظهرت له. والله أعلم.
(1) هو: يزيد بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية القرشي الأموي، كان أفضل بني أبي سفيان وكان يقال له يزيد الخير، أسلم يوم فتح مكة، وشهد حنينا وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم، استعمله أبو بكر رضي الله عنه وسيره على جيش إلى الشام، مات في طاعون عمواس سنة 18 هـ وقيل تأخر إلى سنة 19 هـ انظر: الإصابة (1/516) ت رقم (9285) وأسد الغابة (4/715) ت رقم (5550) .
(2)
أخرجه مالك في الموطأ كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والوالدان في الغزو ص (277) .
(3)
الأم (4/258) والمعونة (2/8) والمبسوط (10/31) .
(4)
شرح السير الكبير (1/125) .