الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
أحكام المجاهد في الحدود
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إقامة الحدود على المجاهد في أرض العدو
.
المطلب الثاني: إقامة الحدود على المجاهد في الثغور.
المطلب الأول
إقامة الحدود (1) على المجاهد في أرض العدو
سبق عند الحديث عن القصاص من المجاهد في النفس أن الجمهور قالوا: لا يسقط القصاص عن المجاهد في أرض العدو، وكذا سائر الحدود، وقال الحنفية يسقط القصاص وسائر الحدود إذا لم يخرج الإمام مع الجيش، وقد سبق ذكر الأدلة والمناقشة والترجيح هناك (2) .
وفي هذا المطلب اختلف الجمهور القائلون بعدم سقوط الحدود عن المجاهد هل تقام على المجاهد في أرض العدو أم تؤجل حتى يرجع إلى بلد الإسلام؟
فذهب الحنابلة إلى أنها لا تقام الحدود على المجاهد في أرض العدو، وإنما تؤجل حتى يرجع إلى بلد الإسلام ثم تقام عليه (3) .
(1) الحدود جمع حد، والحد: المنع والفصل بين شيئين، وسميت حدود الشرع حدودا، لأنها فصل بين الحلال والحرام، وسميت الحدود التي هي العقوبات المقدرة حدودا، لأنها تمنع من الإقدام على ما يوجب حدا. انظر: لسان العرب (3/140) مادة (حدد) والمصباح المنير ص (124) مادة (حدد) .
وفي الشرع: عقوبة مقدرة شرعا في معصية من زنا وقذف وشرب خمر وقطع طريق وسرقة لتمنع من الوقوع في مثلها. انظر: كشاف القناع (5/65) وشرح منتهى الإرادات (3/335) .
(2)
راجع: القصاص من المجاهد في النفس.
(3)
المغني (13/172) وإعلام الموقعين لابن القيم (3/7) .
واستدلوا بما يلي:
1-
عن بسر بن أبي أرطاة (1) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» (2) .
وجه الدلالة: أن هذا حد من حدود الله تعالى، نهى صلى الله عليه وسلم عن إقامته في الغزوة خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تأخيره، كأن يلحق من أقيم عليه الحد بالمشركين حمية، أو غضبا (3) .
2-
ما روي أن عمر رضي الله عنه (أنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار)(4) .
3-
إجماع الصحابة:
قال ابن قدامة رحمه الله (ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم (5) .
(1) هو: بسر بن أرطاة، وقيل: بن أبي أرطاة بن عمير بن عويمر، القرشي العامري، أبو عبد الرحمن، مختلف في صحبته قال أهل الشام: سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وجهه معاوية إلى اليمن والحجاز، توفي سنة (86 هـ) وقيل غير ذلك، انظر: الإصابة (1/421) ت رقم (642) وتهذيب التهذيب (1/381) ت رقم (801) .
(2)
أخرجه الترمذي في سننه مع تحفة الأحوذي، كتاب الحدود، باب ما جاء أن لا تقطع الأيدي في الغزو، ح رقم (1450) قال الترمذي: هو حديث غريب، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود باب الرجل يسرق في الغزو أيقطع، ح رقم (4408) ولفظه:(لا تقطع الأيدي في السفر) والنسائي كتاب السارق، باب القطع في السفر، ح رقم (4994) والدارمي في سننه باب في أن لا تقطع الأيدي في الغزو (2/231) قال الشوكاني: سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: غريب ورجال إسناده عند أبي داود ثقات، وفي إسناد الترمذي ابن لهيعة وفي إسناد النسائي بقية بن الوليد. انظر: نيل الأوطار (7/137) وقال الألباني: صحيح انظر: صحيح الجامع الصغير (2/1233) ح رقم (7397) .
(3)
إعلام الموقعين (3/7) .
(4)
أخرجه ابن منصور في سننه، كتاب الجهاد، باب كراهية إقامة الحدود، ح رقم (2499) وعبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجهاد، باب هل يقام الحد على المسلم في بلاد العدو، ح رقم (9370) وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الحدود، باب إقامة الحد على الرجل في أرض العدو (6/565) .
(5)
المغني (13/173) .
والمراد بالإجماع هنا الإجماع السكوتي (1) فإن القول بعدم إقامة الحد في أرض العدو على المجاهد حتى يرجع قد ورد عن جملة من الصحابة رضي الله عنهم في مواجهة آخرين منهم، فلم يظهر في سياق الأخبار خلاف أحد منهم فصار ذلك إجماعا على تأخير الحد (2) .
4-
القياس الأولى (3) .
ووجه ذلك: أنه إذا جاء تأخير الحدود لأمر عارض من مرض أو برد أو حر أو حمل ونحو ذلك مما فيه مصلحة للمحدود، فإن تأخير الحد عن المجاهد إلى الرجوع إلى دار الإسلام لمصلحة الإسلام، كحاجة المسلمين إلى المحدود في القتال، أو الخوف من ارتداده ولحوقه بالكفار جائز من باب أولى (4) .
وذهب المالكية إلى أن الحدود تقام على المجاهد في دار الحرب مطلقا (5) .
واستدلوا بأن أدلة إقامة الحدود جاءت مطلقة في كل زمان وكل مكان فتقام الحدود في دار الحرب ودار الإسلام.
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ..
وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] .
وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .
(1) هو: أن يقول بعض المجتهدين قولا في حكم حادثة مثلا، ويسكت باقي المجتهدين مع اشتهار ذلك القول وانتشاره انظر: روضة الناظر لابن قدامة (ص 79) العدة في أصول الفقه لأبي يعلي (4/1170) .
(2)
الحدود والتعزيرات عن ابن القيم ص (57) .
(3)
هو: ما كانت العلة في المقيس أقوى منها في المقيس عليه، فيكون الحكم في المقيس أولى من المقيس عليه.
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/3) وإعلام الموقعين (1/133) .
(4)
إعلام الموقعين (3/18) والحدود والتعزيرات عن ابن القيم ص (58) .
(5)
بلغة السالك (1/358) ومواهب الجليل (4/551) والذخيرة (3/411) والتفريع (1/358) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل عمدا فهو قود» (1) .
فهذه نصوص جاءت مطلقة لم تحدد الزمان ولا المكان الذي تقام فيه الحدود.
ونوقش استدلال المالكية بإطلاق النصوص بما يلي:
1-
أن هذا الإطلاق مقيد بما ثبت من النصوص التي استدل بها الحنابلة، أنه لا يقام الحد في أرض الحرب (2) .
2-
أن المالكية يقولون بجواز تأجيل الحد لمصلحة المحدود، كبرد شديد، أو حر شديد، أو مرض، فهم بذلك قيدوا النصوص المطلقة (3) فكذلك النصوص المطلقة في إقامة الحدود فيلزم تأخير الحد عن المجاهد في أرض العدو حتى يرجع إلى دار الإسلام لمصلحة الإسلام والخوف عليه من اللحوق بالكفار.
وذهب الشافعية (4) إلى إقامة الحدود على المجاهد في دار الحرب إلا إذا وجد مانع من إقامة الحد، كالتشاغل بتدبير الحرب، أو الحاجة إلى المحدود في القتال، فإنه يؤجل الحد إلى دار الإسلام، ولم يعتبروا الخوف على المجاهد أن يلحق بالمشركين مانعا من إقامة الحد عليه في دار الحرب.
جاء في الأم (يقام عليه الحد ولا يمنعنا الخوف عليه من اللحوق بالمشركين أن نقيم حد الله تعالى، ولو فعلنا توقيا أن يغضب ما أقمنا عليه الحد أبدا، لأنه يمكنه من أي موضع أن يلحق بدار الحرب فيعطل عنه حكم الله عز وجل وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم
…
) (5) .
واستدلوا بما يلي:
1-
(أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد بالمدينة والشرك قريب منها، وحد شارب الخمر يوم حنين والشرك قريب منه)(6) .
(1) سبق تخريجه.
(2)
راجع أدلة القول الأول.
(3)
جواهر الإكليل بهامش مواهب الجليل (2/286) والحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص (66) .
(4)
الحاوي الكبير (14/210) والمهذب مع تكملة المجموع (21/214) .
(5)
الأم (4/248) .
(6)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب السير باب إقامة الحدود في أرض العدو ح رقم (18217) وأورد آثارا أخرى منها:(أقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لائم) ح رقم (18221) .
2-
أن الحدود تجب في دار الإسلام، فاقتضى أن تجب في دار الحرب (1) .
3-
أنه لما استوت الداران في تحريم المعاصي ووجوب العبادات، وجب أن تستويا في لزوم الحدود (2) .
ويمكن مناقشة أدلتهم بما يلي:
1-
أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد بالمدينة وهي دار إسلام لا دار حرب.
2-
أن الحدود تجب في دار الإسلام ولا يقتضي ذلك وجوبها في دار الحرب لوجود مانع أو مصلحة، كما ذكر الشافعية ذلك.
3-
أن تحريم المعاصي ووجوب العبادات مطلقا في كل زمان وكل مكان، أما إقامة الحدود فمقيد كما سبق.
الترجيح
الذي يظهر أنهم متفقون على جواز تأخير الحد عن المجاهد حتى يرجع إلى دار الإسلام إذا وجد مانع من إقامته في دار الحرب فالحنابلة، والشافعية ظاهر قولهم فيما سبق.
أما المالكية فجاء في حاشية الدسوقي بعد أن أوجب إقامة الحد في دار الحرب ما يدل على جواز تأجيل الحد، قال:(والظاهر أنه إذا خيف من إقامة الحد ببلدهم حصول مفسدة فإنه يؤخر ذلك للرجوع لبلدنا، ولا سيما إن خيف عظمها)(3) .
والخلاف إنما هو فيما إذا لم يوجد ما يمنع من إقامة الحد، إلا الخوف من لحوقه بالمشركين فالمالكية والشافعية قالوا: تقام عليه الحدود، والحنابلة قالوا: لا تقام عليه الحدود حتى يرجع والراجح ما ذهب إليه الحنابلة أنها لا تقام عليه الحدود في دار الحرب وتؤخر حتى يرجع إلى دار الإسلام للنصوص الواردة في ذلك والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم وإجماعهم على ذلك، ولأن إقامة الحدود على المجاهد في دار الحرب تؤدي إلى إضعاف روحه المعنوية وربما طمع العدو في المسلمين واستغلوا إقامة الحدود في إثارة الفتنة بينهم وإضعافهم وتفريق صفهم والله أعلم.
(1) الحاوي الكبير (14/210) .
(2)
المرجع السابق.
(3)
حاشية الدسوقي (2/180) وانظر حاشية الخرشي (4/23) .