الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثالث
الفرار من الزحف
(1)
للمجاهدين في سبيل الله مع العدو عند اللقاء حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون العدو مثلي عدد المجاهدين أو أقل (2) .
الحالة الثانية: أن يكون العدو أكثر من مثلي عدد المجاهدين.
فأما الحالة الأولى: إذا كان العدو مثلي عدد المجاهدين أو أقل فإنه يجب على المجاهدين في سبيل الله الثبات ويحرم الفرار من العدو إلا في حالة التحرف (3) لقتال أو التحيز (4) إلى فئة من المسلمين، وبهذا قال عامة الفقهاء (5) ونقل بعضهم الاتفاق على ذلك.
(1) الزحف: المشي إليه، والزحف: الجماعة يزحفون إلى العدو، والتزاحف التداني، والتقارب انظر: لسان العرب (9/129) مادة (زحف) وجامع البيان للطبري (6/199) .
(2)
المراد أن يكونوا مثليهم في العدد والسلاح.
(3)
هو: أن يعدل عن القتال إلى موضع هو أصلح للقتال، فينتقل من مضيق إلى سعة، ومن صعب إلى سهل ونحو ذلك. انظر: الحاوي الكبير (14/183) والمغني (13/187) وحاشية الخرشي (4/20) .
(4)
هو: الذي ينحاز إلى طائفة من المسلمين يتقوى بهم. انظر المراجع السابقة.
(5)
شرح السير الكبير (1/89) والفتاوى الهندية (2/193) والكافي في فقه أهل المدينة (1/467) وحاشية الخرشي (4/19) والأم (4/169) والحاوي الكبير (14/181) والمغني (13/186) وكشاف القناع (2/374) والمحلى بالآثار (5/342) .
وحكى عن الحسن البصري، والضحاك، وغيرهما: أن الفرار من الزحف بعد يوم بدر ليس بكبيرة فلا يحرم. واستدلوا بما يلي:
أ - قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] فقوله تعالى: {يومئذ} يدل على أنه خاص ببدر.
ونوقش الاستدلال: بأن الأمر في الآيات بالثبات مطلق فلا يقيد إلا بدليل. وخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرار من الكبائر عام لا يخصص إلا بدليل.
ب- ولأن الناس فروا يوم أحد ويوم حنين فعفا الله عنهم، ولم يعنفوا على ذلك.
ونوقش بأنه يحمل على كثرة العدو، ثم هم قد عنفوا على فرارهم، ثم عفا الله عنهم، انظر: المغني (13/186) وأحكام القرآن للجصاص (3/63) والجامع لأحكام القرآن
…
(7/334) .
جاء في حاشية الروض المربع: (اتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان وجب على المسلمين الحاضرين وحرم عليهم الانصراف والفرار)(1) .
واستدلوا بما يلي:
1-
فالله سبحانه حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو الانهزام والإدبار عنهم إلا لتحرف إلى قتال، أو تحيز إلى فئة من المسلمين، فمن أدبر بعد الزحف بغير نية التحريف، أو التحيز فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يعفو عنه (2) .
2-
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] .
والمراد: إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين، وادعوا الله بالنصر عليهم (3) .
3-
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات (4) وذكر منها التولي يوم الزحف) (5) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عد الفرار من الزحف من الكبائر (6) فدل على شدة حرمة الفرار من الزحف.
(1) حاشية الروض المربع (4/267) ومشارع الأشواق (1/566) .
(2)
جامع البيان للطبري (6/202) .
(3)
جامع البيان للطبري (6/260) .
(4)
الموبقات: المهلكات انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (2/442) .
(5)
صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، ح رقم (6857) وصحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان باب بيان الكبائر ح رقم (89) .
(6)
المغني (13/186) .
الحالة الثانية: أن يكون العدو أكثر من مثلي المجاهدين.
وفي هذه الحالة، إن غلب على ظن المجاهدين في سبيل الله الظفر بالعدو إذا ثبتوا لزمهم الثبات مهما كان عدد العدو للأدلة السابقة من الكتاب والسنة التي توجب الثبات عند لقاء العدو (1) ولما في ذلك من المصلحة للأمة (2) .
وإن غلب على ظنهم الهلاك جاز لهم الفرار، وبهذا قال عامة الفقهاء (3) .
واستدلوا بما يلي:
1-
وجه الدلالة من الآيات: أنه في أول الإسلام كان فرض على الواحد من المجاهدين قتال عشرة من الكفار ثم خفف فأصبح فرض الواحد اثنين (4) فإن زاد العدو على الضعف لم يعد فرض عليه المصابرة وجاز له الفرار.
2-
قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
(1) انظر الأدلة في الحالة الأولى.
(2)
المغني (13/189) والحاوي الكبير (14/182) .
(3)
شرح السير الكبير (1/89) والفتاوى الهندية (2/193) وحاشية الدسوقي (2/178) والكافي في فقه أهل المدينة (1/467) والأم (4/169) وروضة الطالبين، (10/248) والمغني (13/187) وكشاف القناع (2/374) .
(4)
السنن الكبرى للبيهقي (9/129) والأم (4/169) .
وجه الدلالة من الآية: أن بقاء المجاهدين في وجه العدو مع غلبة الظن أنهم يهلكون مدعاة إلى استئصال المجاهدين وهلاكهم دون تأثير في العدو، فيدخل ذلك تحت عموم النهي عن إلقاء النفس إلى التهلكة.
3-
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن فر رجل من اثنين فقد فر وإن فر من ثلاثة لم يفر)(1) .
وجه الدلالة: أن الفرار من الضعف لا يجوز فإن زاد عدد العدو على ضعف المجاهدين جاز واستثنى الحنفية (2) والمالكية (3) من جواز الفرار من الزحف ما إذا كان عدد المجاهدين اثنا عشر ألفا فأكثر، فإنه لا يجوز الفرار من الزحف مهما كان عدد العدو على أن تكون كلمة المجاهدين واحدة ومعهم السلاح.
واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة» (4) .
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب السير، باب تحريم الفرار من الزحف ح رقم
…
(18081) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات (5/328) .
(2)
شرح السير الكبري (1/89) وأحكام القرآن للجصاص (3/64) والفتاوى الهندية
…
(2/193) .
(3)
حاشية الدسوقي (2/178) وحاشية الخرشي (4/19) .
(4)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء، والسرايا، ح رقم (2611) وقال: الصحيح أنه مرسل، والترمذي في سننه مع عارضة الأحوذي كتاب السير، باب ما جاء في السرايا، ح رقم (1555) وقال: حديث حسن غريب، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم، وإنما روي هذا الحديث عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وأخرجه الدارمي في سننه، كتاب السير، باب في خير الأصحاب، والسرايا والجيوش (2/215) والحاكم في المستدرك كتاب المناسك، ح رقم (1621) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، انظر: التلخيص على هامش المستدرك (1/611) .
والمراد لن يغلب لقلة العدد، وإن كان قد يغلب لأمر آخر، كالعجب بكثرة العدد، كما حصل للمسلمين في حنين (1) .
ونوقش بأن المراد لا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة بالنسبة لزمن النبي صلى الله عليه وسلم فاثنا عشر ألفا في ذلك الزمن يعتبرون في حد الكثرة، ولذلك ضمن له النصر إذا صحت النيات (2) .
وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز الفرار مطلقا ولو كثر العدو إلا أن يكون متحيزا إلى جماعة المسلمين أو ينوى الكر إلى القتال (3) .
واستدل بظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15، 16] .
ويمكن مناقشة ما أطلقه ابن حزم، بأن ذلك مقيد بما استدل به الجمهور من كون فرض المجاهد أن يصابر مثليه من العدو، فإن زادوا عن الضعف وظن الهلاك فله الفرار.
الترجيح
الذي يظهر أن الراجح قول عامة الفقهاء أنه يجوز الفرار من الزحف إذا كان العدو أكثر من مثلي المجاهدين سواء كان عدد المجاهدين اثنا عشر ألفا أو أكثر أو أقل إذا غلب على ظنهم إن ثبتوا الهلاك دون تأثير في العدو، وكان ذلك في جهاد الطلب، وإن ثبتوا جاز لهم ذلك لنيل الشهادة في سبيل الله مقبلين غير مدبرين، ولربما انتصروا، قال تعالى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . والله أعلم.
(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود (7/193) .
(2)
عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي (7/36) .
(3)
المحلى بالآثار (5/342) .