الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
107- أبو القاسم بن منصور بن يحي المكّيّ الاسكندريّ المعروف بالقبّاريّ
«13»
حطّ رجله بالآخرة وأناخ، ولم يتخذ الدنيا غير مناخ، فلم يأنس من أهلها بقبيل. ولا سلك في سبلها إلا عابر سبيل، لعدم اغتراره ببرقها الجهام، وفرط حذاره من رشقها بالسهام، فلم يستطب فيها الملاذ، ولم يستطل بها العود والملاذ، وأقام لا يرشف من ورد زلالها ريقا، ولم يقبل من برد ظلالها طريقا.
وكان أحد العباد المشهورين بكثرة الورع والتحري في المأكل والمشرب والملبس، معروفا بالانقطاع، والتخلي وترك الاجتماع بأبناء الدنيا، والإقبال على ما يعنيه من أمر نفسه، وطريقه الذي سلكه، قلّ أن يقدم أحد من أهل زمانه عليه من خشونة عيشه، وما أخذ نفسه به من الوحدة، وعدم الاجتماع بالناس، والجدّ، والعمل، والاحتراز من الرياء، والسمعة، لا يعلم في وقته من وصل إليه، وكانت الملوك ومن دونهم يقصدون زيارته، ورؤيته، والتبرك به، فلا يكاد يجتمع بأحد منهم «1» ، وأخباره في الورع والعبادة مشهورة.
وكان مقيما بجبل" الصيقل" بظاهر الاسكندرية، وبه مات «2» ، ولم يزل عمره كله على
قدم واحدة في الاجتهاد والعبادة، وقلة المبالاة بعيشه كيف كانت، ودنياه كيف نقصت، متقللا من قليلها بجهده، مقبلا على الآخرة بكليته، يتصدّق بفضله، ويواسي في كفافه، ويؤثر من قوته، إلى كرم عزيز، وقنع باليسير.
ومما حكي عنه من الورع أنه لما رأى ما ينال الناس من الظلم في كرى «1» الخليج الواصل إلى الاسكندرية من النيل، أعرض عن مائه، وحمله التدقيق في الورع على أن حفر له بئرا كان يشرب منها، وينقل الماء منها بالجرار، على دابة ليسقي بستانه، وكان إذا وجد رطبة ساقطة تحت نخلة ولم يشاهد سقوطها منه لا يرفعها، ولا يأكلها، لاحتمال أن طائرا جناها من نخل غيره، وسقطت منه تحت نخله، وبالجملة لم يخلف بعده مثله «2» وحكى علي بن حمزة النقيب، عن أبي المظفر يوسف بن عبد العزيز الدمنهوري، قال: أتيت الشيخ أبا القاسم وتهيبته أن أطرق عليه الباب، فوقفت لعلي أجد من يستأذن لي عليه، فسمعته يبكي وينشد:
كيف برئي وداء وجدي عضال
…
ونهوضي وعثرتي لا تقال
وعزيز على أهون شيء في هوا
…
هـ ما قالت العذّال
يا نسيم الشمال من أرض نجد
…
فيك للصب صحة واعتلال
لي بالجزع حاجة ليس تقضى
…
وغريم يلذ منه المطال
يا لقومي كم ذا تسل سيوف
…
لقتالي وكم تراش نبال
أنت أحلى في القلب من أمل
…
القلب إذا ما تناهت الآمال
قال: ولم يزل يرددها وهو يبكي ويشهق، حتى خفت عليه، فطرقت عليه الباب، فقطع إنشاده وسكّن زفراته، وغيّض عبراته، ثم أذن لي، فدخلت عليه، فقال: لعلك سمعت شعرا كنت أنشده؟ فقلت: كان ذلك، ولقد خشيت عليك والله مما كنت فيه. فقال: يا هذا! تذكرت عشقة منذ عهد الصبا أنا إلى الآن في سكرها، وربما كانت في وقت أشد من