الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لاغتنام تلك الياقوتة، وظنّ أنها تكون رأس مال لغناه!، فقال له الشيخ: ارجع فإنها محبرة، فنظر إليها فإذا هي محبرة.
والذي أقوله: إن مواهب الله عظيمة، والقدرة صالحة، وما شاء الله كان. رحمه الله تعالى.
ومنهم:
101- الحسن بن عليّ بن يوسف بن هود الجذاميّ المغربيّ
«13»
الزاهد، أبو علي، وأبوه عضد الدولة، أخو المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، ملك الأندلس.
رجل كم جاب المقفر، وجاء كالصباح المسفر، وقدم من بلاد المغرب، قدوم عنقاء مغرب، وكان بجزيرة الأندلس، من أبناء ملوكها، وأجلّاء أهل سلوكها.
وسكن دمشق حيث طاب له الوطن، وطوى ذيل أسفاره وقطن. ولأهلها فيه اعتقاد، وظن خلص من انتقاد، وكانت تغلب عليه فكره، ويغل عقله إذا ثاب إليه سكره، فيظلّ المدد «1» شاردا لا يدري، وسائرا لا ينطق، وإنما الزمان به يجري، مع ندى سكن بصيبة السحاب الهتّان، وهدى بكت بسببه أهل البهتان، على أن بعض الفقهاء لم يخله من لسع عقاربه، ورميه بأنه غير متق لله ولا مراقبه، ومن جهل شيئا عاداه، ولله حقيقة عمله، وما أبوء بظلمه «2» .
يقال: إنه من أولاد ملوك المغرب.
قال الحافظ أبو محمد البرزالي: أبو عضد الدولة أبو الحسن علي أخو المتوكل على الله ملك الأندلس أبي عبد الله، وكان عضد الدولة ينوب عن أخيه بمرسية، وتزهّد الحسن، وترك الدنيا، واشتغل بشيء من علوم الحكمة والطب، ونظر في كلام ابن عربي، وابن سبعين، وكان من رأيه تعظيم ابن سبعين، وانتماؤه إليه.
وكان زهده وإعراضه عن الدنيا ظاهر لا ينكره أحد. وعنده غفلة كثيرة في غالب أحواله، يصحبه الرجل سنة، ويغيب عنه أياما يسيرة، فيراه، فلا يعرفه، ويذكره بأشياء جرت له معه، فلا يذكر!، ولا يظهر عليه أنه رأى ذلك الشخص عمره.
وحجّ مرات، وجاور، ودخل اليمن واحترمه سلطانها، وأرسل إليه وإلى أصحابه مالا، ودخل دمشق غير مرة، وأكرم أول دخوله إليها إكراما كثيرا، وقصده نائب السلطنة بها، والقاضي، وأعيان الناس، ثم طالت إقامته بها، فانتقص ذلك الإكرام، مع أنه كان يظهر عليه أنه لا فرق عنده بين الحالتين، وكان ينقم عليه كلام يصدر منه لا يوافق الشريعة.
وكان الشيخ تقي الدين «1» كثير الوقيعة فيه، والنقمة عليه، والتنقص به، وبمذهبه، ينفر عنه التنفير الكثير، ويحذر منه التحذير الوافر.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ثم بان أمره، وقطع بأنه من رؤوس الاتحادية.
وحكى الفاضل أبو الصفاء الصفدي: قال: أخبرني الخطيب أبو محمد الحسن بن محمد
القرشي، قال: كان ابن هود يلحقه حال يشغله عن حسّه، ويذهله عن نفسه، حتى كان توضع في يده الجمرة ولا يشعر، فإذا أحرقته عاد إلى حسّه. قال: وربما كان يقع في الحفاير، ولا يدري!.
وكان يقرئ في" الدلالة" للريس موسى «1» ، وأسلم على يده جماعة من اليهود، فعملوا عليه حتى سقوه الخمرة في حالة غيبته، وأروه المسلمين، وهو في تلك الحال، ولا بغير ذلك عقيدة من له فيه عقيدة.
قال البرزالي: سألته عن مولده؟. فقال: في ثالث عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، بمرسية.
وتوفي عشية الاثنين السادس والعشرين من شعبان، سنة تسع وتسعين وستمائة، بدمشق.
ودفن بكرة الثلاثاء بسفح قاسيون، وتقدم في الصلاة قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وأنشد من شعره قوله:
علم قومي بي جهل
…
إن شأني لأجلّ
وذكر شيخنا أبو حيان، وقال: رأيته بمكة، وجالسته، وكان يظهر منه الحضور مع من يكلمه، ثم لا تظهر الغيبة منه، وكان يلبس نوعا من الثياب مما لم يعهد بلبس مثله بهذه البلاد، وكان يذكر أنه يعرف شيئا من علوم الأوائل.
وأنشد عن أبي الحكم ابن هانيء عنه قوله:
خضت الدجنّة حتى لاح لي قبس
…
وبان بان الحمى من ذلك القبس
فقلت للقوم هذا الربع ربعهم
…
وقلت للمسع لا تخلو من الحرس
وقلت للعين غضّي عن محاسنه
…
وقلت للنطق هذا موضع الخرس
قلت: أنشدني شيخنا أبو الثناء الكاتب رحمه الله تعالى هذه الأبيات، وقال: كان من خبرها أن ابن هود حجّ، فلما أتى المدينة، وشارف أعلامها، نزل عن دابته واغتسل، ولبس ثيابا نظافا، ثم جعل يمشي، وهو يهمهم بكلام خفي سمعه بعض من كان يمشي خلفه، فإذا هو يقول:
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة
…
لمن حلّ أن نلم به ركبا
ثم لم يزل يطأ من رأسه، ويخضع حتى أتى باب المسجد وكأنه راكع، فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم من ظاهر الحجرة، بأكمل الأدب، ثم صلى ركعتي التحية بالروضة، ثم خرج إلى الزيارة، فجلس على الرمل، ثم جعل يبكي ويخط على الرمل الأبيات، فقرأها بعض الحاضرين، فحفظها، وأنشدها عنه.
قلت: حدّثت بهذا الشيخ سعيد خادم ابن هود، فقال: صحيح.
وحكى لي شيخنا أبو الثناء قال: أتى لاجين نائب الشام، وحسام الدين الرازي ابن هود، وهو لا يعرفهما، وكان مع لاجين سجادة، ففرشها تحت ابن هود بيده، وساعده الرازي. فقال له بعض من عنده: يا سيدي! هذا نائب الشام، وبيده قد فرش لك السجادة، وهذا الذي معه من أكابر العلماء. فقال: بارك الله فيهما، والله ما فرش إلي السجادة إلا ليجلس على سرير الملك، وصاحبه قاضي القضاة.
وكان ابن هود ذا علم جمّ، ولكن كانت الغيبة غالبة عليه، ولقد كان يبقى الأيام والليالي لا يأكل طعاما، ولا يشرب شرابا، وكان كثيرا ما يقعد في مقابر كيسان مستدبرا للمدينة، متوجها إلى القبلة، ويبقى الأيام الكثيرة في الحر والبرد، لا يتغير من مكانه، ولقد رأيته هناك في زمان صيف شديد، وقد لفحته هواجر الحر، وأثر فيه السموم، وكانت بيني وبينه صحبة، ووقفت أمامه، وأنشدته:
أنت المنية والمنى فيك استوى
…
ظل الغمامة والهجير المحرّق
فرفع رأسه إليّ وقال: من تكون؟ فعرّفته بنفسي، فقال: ما أعرفك، فانصرفت، وأنا
أرثي له مما يقاسي.
وقد ذكره أبو الصفاء، وأنشد له قطعة، منها:
أروّي بذكر الجزع عنه وبانة
…
ولا البان مطلوبي ولا قصدي الرمل
وأذكر سعدى في حديثي مغالطا
…
بليلى ولا ليلى مرادي ولا جمل
ولم أر في العشاق مثلي لأنني
…
تلذ لي البلوى ويحلو لي العذل
سوى معشر حلوا النظام ومزّقوا الثياب فلا فرض عليهم ولا نفل
مجانين إلا أن ذلّ جنونهم
…
عزيز على أعتابهم يسجد العقل
وأنشدني الشيخ سعيد له شعرا كثيرا منها قصيدته المشهورة التي أولها:
سلام عليكم صدّق الخبر الخبر
…
فلم يبق قال القسّ أو حدّث الحبر
وهي قصيدة عسرة المسلك، متوعرة الجوانب، يحار في ظلماتها ويخبط في بهماتها، وجملة المختار منها قوله:
وأشرق نور الحق من كل وجهة
…
على كل وجه فاستوى السر والجهر
فهاموا وتاهوا بين حق وباطل
…
يجوزه زيد ويمنعه عمرو
ولو سلموا ساروا على منهج الهدى
…
إلى حضرة الرضوان لكنهم غروا
فقوموا على ساق من الجد واثبتوا
…
على قدم التجريد إن الغنى فقر
ولا تجعلوها راحة دون غاية
…
فلا راحة إلا إذا بعثر القبر
ومما أنشد له ابن الكلاس قوله:
حاشا ثيابك من أذى يا من له
…
القدر الكبير ورفده لا يمنع
لم يبد فيهن الدمامل ضلة
…
بالقصد لكن ساقهن المطمع
لما رأت كفيك جودا هامعا
…
وسحاب ذاك الجود لا يتقشّع
قصدت مشاركة الأنام فأصبحت
…
من فيض جودك تستمد وتجمع