الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
5- أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور
«13»
من كورة بلخ «1» ، [لات] بعطفيه حلل التقوى الفاخرة، وملك الدنيا فرغب في الآخرة، بلغ ما لا يتوهم، وسبق ولا غرر له وهو ابن أدهم، وكان أي رجل، لم تجرّه الدنيا بحبالها، ولم تغره الدنيا بخيالها، فأعرض عن الأعراض، وبقايا سورها «2» ، وقليل ميسورها، وزهد زهدا صار فيه مثلا يضرب، ورجلا حديثه يستغرب، إلى أن قطع الأجل كما يقطع المسافر المسافة، وحطّ رحله حيث أمن المخافة.
وكان من أبناء الملوك، فخرج يوما متصيّدا، فأثار ثعلبا، وقيل: أرنبا، فهتف به هاتف «3» : يا إبراهيم!، ألهذا خلقت، أم بهذا أمرت؟.
ثم هتف به من" قربوس"«4» سرجه: والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؟.
فنزل عن دابّته، وصادف راعيا لأبيه، فأخذ جبّته، وكانت من صوف، فلبسها، وأعطاه ثيابه، وقماشه، وفرسه.
ثم دخل مكة، وصحب بها سفيان الثوري «1» ، والفضيل بن عياض «2» ، ثم ارتحل إلى الشام، وأقام بها.
وكان يأكل من عمل يده؛ مثل: الحصاد، وعمل البساتين، وغيرهما.
وصادف في بعض البراري رجلا علّمه" اسم الله الأعظم" فدعا به، فرأى الخضر عليه السلام. «3»
وكان- رضي الله عنه كبير الشان في باب الورع:
يحكى عنه أنه قال:" أطب مطعمك، ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار".
وكان من دعائه:" اللهمّ! انقلني من ذلّ معصيتك إلى عز طاعتك".
وروي أنه كان يحفظ كرما؛ فمرّ به جندي، فقال: أعطنا من هذا العنب. فقال: ما أمرني به صاحبه. فأخذ الجندي يضربه بسوطه، فطأطأ رأسه وقال:" اضرب رأسا طالما عصى الله!! ". «1»
وقيل: مرّ إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة، فاجتمع إليه الناس، وقالوا: يا أبا إسحاق! إن الله يقول في كتابه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
«2» ، ونحن ندعوه فلا يستجيب لنا!.
فقال: يا أهل البصرة! ماتت قلوبكم في عشرة أشياء:
أولها: عرفتم الله ولم تؤدّوا حقه.
والثانية: قرأتم كتاب الله ولم تعلموا به.
والثالثة: ادّعيتم حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنّته!.
والرابعة: ادّعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه!.
والخامسة: قلتم: نحبّ الجنة، وما تعملون لها!.
والسادسة: قلتم: إن الموت حق، ولم تستعدوا له!.
والسابعة: قلتم: نخاف النار [ووهنتم] أنفسكم!.
والثامنة: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونبذتم عيوبكم!.
والتاسعة: أكلتم نعمة ربكم ولم تشكروها!.
والعاشرة: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم!.
وقال إبراهيم بن بشار «1» : سألت إبراهيم بن أدهم عن العبادة؟ فقال:" رأس العبادة التفكر، والصمت، إلا عن ذكر الله تعالى".
وقد بلغني إنه قيل للقمان: ما بلغ من حكمتك؟ فقال: لا أسأل عما قد كفيت، ولا أتكلّف ما لا يعنيني.
ثم قال: يا ابن بشار! إنما ينبغي للعبد أن يصمت أو يتكلّم بما ينتفع به أو ينفع به من موعظة، أو تنبيه، أو تخويف، أو تحذير.
يا ابن بشار! مثّل لبصر قلبك حضور ملك الموت- عليه السلام لقبض روحك، فانظر كيف تكون؟.
ومثّل هول المطلع، ومساءلة منكر ونكير. فانظر كيف تكون؟.
ومثّل القيامة وأهوالها، وأفزاعها، والعرض، والحساب، والوقوف، فانظر كيف تكون؟.
ثم صرخ صرخة، ووقع مغشيّا عليه.
وكتب عمر بن منهال القرشي إلى إبراهيم بن أدهم، وهو بالرملة: أن عظني موعظة أحفظها عنك. فكتب إليه:
" أما بعد
…
فإن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنقص منه في كل وقت نصيب، وللبلاء في جسمه دبيب، فبادر بالعمل قبل أن ينادى بالرحيل، واجتهد في العمل بدار الممر قبل الانتقال إلى دار المقر".
وقال أحمد بن الفضل العكي: سمعت أبي يقول: مرّ إبراهيم بن أدهم بقيسارية «2» ، وقد
تعجّل دينارا من نظارة كرم، فسمع صوت امرأة تصيح، فقال: ما لهذه؟. قالوا: تلد. قال:
وأي شيء نعمل لها عند ولادتها؟. قالوا: نشتري لها الدقيق، والزيت، والعسل، والسمن.
فصرف ديناره، واشترى زنبيلا «1» ، وملأه من هذه الأخبية، ثم حمله على رقبته إلى بابها، وقال: خذوا!. فنظروا
…
وإذا هم أفقر بيت من أهل قيسارية، وأعبده لله تعالى!!.
وقال بقية بن الوليد «2» : سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: تعلّمت المعرفة من راهب يقال له: سمعان. دخلت عليه في صومعته، فقلت له: يا سمعان! منذ كم أنت ها هنا؟. فقال:
منذ سبعين سنة!، فقال: يا حنيفي! وما دعاك إلى هذا؟. فقلت: أحببت أن أعلم. ثم قلت له: ما الذي تأكل؟. قال: في كل ليلة حمّصة!. قلت: فما الذي يهيج قلبك حتى يكفيك الحمّصة؟. فقال: ترى الدير الذي بحذائك؟. قلت: نعم. قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوما واحدا؛ فيزيّنون صومعتي، ويطوفون حولها، ويعظّموني بذلك، فكلّما تثاقلت نفسي عن العبادة، ذكرت تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعزّ ساعة، فاحتمل أنت يا حنيفي جهد ساعة لعزّ الأبد. فوقعت المعرفة في قلبي. ثم قال لي: حسبك أو أزيدك؟. قلت: زدني.
فقال: انزل عن الصومعة، فنزلت، فأدلى إلي ركوة فيها عشرون حمصة، وقال لي:
ادخل الدير، فقد رأوا ما أدليت لك، فلما دخلت الدير، اجتمع النصارى حولي، فقالوا: يا حنيفي! ما الذي أدلى لك الشيخ؟. قلت: من قوته. قالوا: وما الذي تصنع به؟. نحن أحقّ به، فبعناه. قلت: بعشرين دينارا؛ فاشتروه، ثم رجعت إلى الشيخ، فقال: يا حنيفي! لو التمست منهم عشرين ألف دينار لأعطوك!. ثم قال: هذا عزّ من لا تعبده، فكيف عزّ من عبده؟. يا حنيفي! أقبل على ربك، ودع المجيء والذهاب.
وقال إبراهيم بن أدهم: مررت براهب في صومعته، والصومعة على عمود، والعمود على قلّة «1» جبل، كلما عصفت الريح تمايلت الصومعة. فقلت: يا راهب! فلم يجبني. ثم ناديته ثانيا، فلم يجبني. فقلت في الثالثة: بالذي حبسك في صومعتك إلا أجبتني.
فأخرج رأسه من صومعته، فقال: سمّيتني باسم لم أكن له بأهل!، قلت لي: يا راهب!، ولست براهب، إنما الراهب من رهب ربه عز وجل. قلت: فما أنت؟. قال: سجنت سبعا من السباع. قلت: ما هو؟. قال: لساني سبع ضار، إن أنا أرسلته مزّق الناس.
يا حنيفي! إن لله عبادا سلكوا خلال دار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، وشابوا ثمرة العلم بنور الإخلاص، هم- والله- عباد كحّلوا أبصارهم بسهر الليل، فلو رأيتهم في ليلهم، قد نامت عيون الخلق وهم قيام على أطرافهم، يناجون من لا تأخذه سنة ولا نوم.
يا حنيفي!، عليك بطريقهم. قلت: فعلى الإسلام أنت؟. قال: ما أعرف غير الإسلام دينا، ولكن عهد إلينا المسيح عليه السلام، ووصف لنا آخر زمانكم، فخليت الدنيا، وإن دينكم لجديد، وقد خلق.
وقال إبراهيم: رأيت في المنام كأن جبريل- عليه السلام نزل إلى الأرض، فقلت له:
لم نزلت؟. قال: لأكتب المحبين. فقلت: مثل من؟. فقال: مثل مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، وعدّ جماعة. فقلت: أنا منهم؟. فقال: لا. فقلت: فإذا كتبتهم، فاكتب تحتهم:" محب المحبين". فقال: قد أمرني الله تعالى أن أكتبك أولهم.
وقال:" نعم القوم السّؤّال «2» ، فإنهم يحملون زادنا إلى الآخرة".
وروي عنه أنه قال:" ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: