الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
18- السّري بن مغلّس السّقطيّ
«13»
خال الجنيد، وأستاذه.
رمى يده من الدنيا ونفضها، وأعطى الله عهودا ما نقضها، لم يرض بمتاع معار، ولا برضاع آخره إثم وعار، فتجنّب الزخارف، وتجلبب غير ما ألبسته من المطارف، فأماط تلك الأردية، وحلّ تلك العقد المردية، حتى خبت لديه مواقدها، وهبّت إليه بالإنابة مراقدها، والزهد يصفي له الموارد، ويصلي سواه كلّ وارد، وكم اتّجه أمثاله إلى ذلك الينبوع واشتبه حاله، حتى فضح التطبّع شيمة المطبوع.
كان تلميذ معروف الكرخي، وأوحد زمانه في الورع، وأحوال السنة، وعلوم التوحيد «1»
وكان يتّجر في السوق، فجاءه معروف يوما، ومعه صبيّ يتيم، فقال: أكس هذا اليتيم.
قال سري: فكسوته، ففرح معروف، وقال: بغّض الله إليك الدنيا، وأراحك مما أنت فيه.
فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إليّ من الدنيا، وكل ما أنا فيه من بركات معروف. «2»
وقال الجنيد: ما رأيت أعبد من السّريّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة، مارئي مضطجعا إلا في علّة الموت. «1»
وقال السّريّ: التصوف اسم لثلاثة معان «2» :
وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه. «3»
ولا يتكلّم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب والسنة.
ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله. «4»
وقال الجنيد: سألني السّريّ يوما عن المحبة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة، وقال قوم:
الإيثار، وقال قوم: كذا وكذا..، فأخذ السريّ جلدة ذراعه، ومدّها، فلم تمتدّ، ثم قال:" وعزّته تعالى، لو قلت: إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبّته لصدقت! ". ثم غشّي عليه، فدار وجهه كأنه قمر مشرق، وكان السري به أدمة. «5»
ويحكى عن السريّ أنه قال:" منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي: الحمد لله، مرة".
قيل: وكيف ذلك؟.
فقال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل، فقال لي: نجا حانوتك!.
فقلت:" الحمد لله"، فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت، حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين!!!. «6»
وقال السّريّ: صلّيت وردي ليلة، ومددت رجلي في المحراب، فنوديت: يا سريّ!! كيف تجالس الملوك؟. قال: فضممت إليّ رجلي، ثم قلت: وعزّتك لا مددت رجلي أبدا، فما مددتها بعد ذلك. «1»
ويحكى عن السّري أنه قال:" أنا أنظر في أنفي في اليوم كذا وكذا مرة، مخافة أن يكون قد اسودّ، خوفا من الله تعالى أن يسوّد صورتي لما أتعاطاه". «2»
وقال السريّ: أعرف طريقا مختصرا قصدا إلى الجنة.
فقلت: ما هو؟.
فقال: لا تسأل من أحد شيئا، ولا تأخذ من أحد شيئا، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحدا. «3»
وقال:" أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد.
فقيل له: ولم ذلك؟.
فقال: أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضح!!. «4»
وقال الجنيد: دخلت يوما على السري السقطي وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟.
فقال: جاءتني البارحة الصبيّة، فقالت: يا أبت! هذه ليلة حارّة، وهذا الكوز أعلّقه ههنا.
ثم إني حملتني عيناي، فنمت، فرأيت جارية من أحسن الخلق، قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت؟.
فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرّد في الكيزان. «1» فتناولت الكوز؛ فضربت به الأرض فكسرته.
قال الجنيد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يمسّه، حتى عفا «2» عليه التراب. «3»
قال: وسمعته يقول:" اللهم مهما عذّبتني بشيء، فلا تعذّبني بذلّ الحجاب. «4»
وقال السّريّ: غزونا أرض الروم؛ فمررت بأرض خضراء، فيها الخبّازى، وحجر منقور فيه ماء المطر، فقلت في نفسي: لئن كنت أكلت يوما حلالا فاليوم!.
فنزلت عن دابّتي، وجعلت آكل من ذلك الخبّازى «5» ، وشربت من ذلك الماء، وإذا بهاتف يهتف بي: يا سري! فالنفقة التي بلغت بها إلى هذا الموضع، من أين؟.
وقال:" أحبّ أن آكل أكلة ليس لله عليّ فيها تبعة، ولا لمخلوق علي فيها منّة، فما أجد إلى ذلك سبيلا". «6»
ودخل عليه رجل في مرضه يعوده، فقال له: كيف تجدك؟.
فقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي
…
والذي بي أصابني من طبيبي
فأخذ الرجل المروحة يروّح عليه، فقال له السّريّ: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟.
ثم أنشأ يقول:
القلب محترق، والدمع مستبق
…
والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له
…
مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا ربّ إن كان شيء فيه لي فرج
…
فامنن عليّ به ما دام بي رمق
ودخل عليه رجل «1» وهو يجود بنفسه، فجلس عند رأسه وبكى، فسقط عليه من دموعه، ففتح عينيه، ونظر إليه، فقال له الرجل: أوصني. فقال: لا تصحب الأشرار، ولا تشغلنّ عن الله بمجالسة الأخيار. «2»
توفي السّريّ رضي الله عنه سنة سبع وخمسين ومائتين. وقيل: سنة إحدى وخمسين «3» ، وقيل: في رمضان سنة خمسين «4» . وكانت وفاته في بغداد «5» .
وكان كثيرا ما ينشد:
إذا ما شكوت الحبّ قالت كذبتني
…
فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فلا حبّ حتى تلصق الجلد بالحشا
…
وتذهل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقي لك الهوى
…
سوى مقلة تبكي بها وتناجيا «6»