الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
30- أبو مغيث الحسين بن منصور الحلّاج
«13»
بحر لا يلجه إلا معذر، وأسد لا يخرجه إلا متضرر، شرب بقية الزجاجة، وطرب فوق قدر الحاجة، فانقلب سكرانا طافحا، وغلب عليه فمال طامحا، وكان ممن كتب الكتب وقراها، وبرأ الكتب ودراها، فكان يجني ثمر الغيوب، ويجري تارة مجرى المحاسن، وتارة مجرى العيوب، فلا يزال يأتي بالحكمة الصائبة، ويحدّث بالكلمة الغائبة، بكشف لا يحجب، ولا يأتي بنادرة فيتعجب، لكثرة ما كان يأتي به شيئا بعد شيء، ويمد من تخييلاتها فيا بعد في، فكان لو شاء أنه أو همّ شق البحر فخاض منه طريقا يبسا، وشهب الماء فأوقد منه شهابا قبسا، وأومأ إلى الغوادي فأجابت سماؤها، وإلى الليالي فانجابت ظلماؤها، فخلب العقول أو سحرها، وخيّل أوقات الظهيرة عشيات الليالي أو سحرها، حتى أضلّ جبلا، وأضاع جملا، وأصبح مثلا، وأمسى وأمثال عقد النجوم عليه منتثلا، وكاد العراق يميد لساكنه، ويميل بمساكنه، حتى كادت بغداد تخرج في ذمامها، ويخرج من يد أيامها، والناس عليه مؤتلفون، وفيه مختلفون، وهم به لا يقصرون، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ
«1» ثم قتل بسيف الشرع، وسقي بسيل دمه منابت الزرع، فقرّ الدرّ في الضرع، واستقرّ في ثاره الأصل والفرع، هذا بعد أن صبّ عليه سوط عذاب، وقتل والناس قسمان:
قسم مدح، وقسم عاب، إلا أنه حكي أنه لم يحضر واقعته إلا من أصيب، وأخذ من البلوى نصيب.
وهو من بيضاء فارس «1» ، ونشأ بواسط «2» ، والعراق.
وصحب الجنيد، والنوري، وعمرا المكي «3» ، وغيرهم.
واختلف المشايخ في أمره: فردّه أكثرهم ونفوه، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف.
وقبله [بعضهم] : من جملتهم أبو العباس بن عطاء، وأبو عبد الله محمد بن خفيف، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي، وأثنوا عليه، وصححوا له حاله، وحكوا عنه كلامه، وجعلوه أحد المحققين، حتى قال محمد بن خفيف:" الحسين بن منصور: عالم ربّانيّ."«4»
قتل بباب الطاق من بغداد، يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة، سنة تسع وثلاثمائة.
وقال الحلاج:" حجبهم بالاسم فعاشوا؛ ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا؛ ولو كشف لهم الحجاب عن الحقيقة لماتوا."«5»
وقال:" من أسكرته أنوار التوحيد، حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار
التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؛ لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم." «1»
وقال:" من التمس الحق بنور الإيمان، كان كمن طلب الشمس بنور الكواكب."«2»
وقال أبو العباس الرازي: كان أخي خادما للحسين بن منصور، فسمعته يقول: لما كانت الليلة التي وعد من الغد لقتله، قلت له: يا سيدي! أوصني.
فقال لي:" عليك بنفسك، إن لم تشغلها شغلتك".
فلما كان من الغد، وأخرج للقتل، قال:" حسب الواحد إفراد الواحد".
ثم خرج يتبختر في قيده ويقول:
نديمي غير منسوب
…
إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر
…
ب فعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس
…
دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الكأس
…
مع التّنّين في الصيف «3»
ثم قال: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ
. «4»
ثم ما نطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل.
وقال القنّاد: لقيت الحلاج يوما في حالة رثّة، فقلت له: كيف حالك؟. فأنشأ يقول:
لئن أمسيت في ثوبي عديم
…
لقد بليا على حرّ كريم
فلا يحزنك أن أبصرت حالا
…
مغيّرة عن الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى
…
لعمرك- بي إلى أمر جسيم «1»
وأنشد ابن فاتك «2» للحسين بن منصور:
أنت بين الشغاف والقلب تجري
…
مثل جري الدموع من أجفاني
وتحلّ الضمير جوف فؤادي
…
كحلول الأرواح في الأبدان
ليس من ساكن يحرك إلا
…
أنت حركته خفي المكان «3»
وأنشد لنفسه «4» :
مواجيد حق، أوجد الحقّ كلّها
…
وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
وما الوجد إلا خطرة ثم نظرة
…
تثير لهيبا بين تلك السرائر
إذا سكن الحق السريرة ضوعفت
…
ثلاثة أحوال، لأهل البصائر
فحال يبيد السرّ عن كنه وجده
…
ويحضره للوجد، في حال حائر
وحال به زمّت ذرى السرّ فانثنت
…
إلى منظر أفناه عن كل ناظر
وأنشد أيضا لنفسه «5» :
متى سهرت عيني لغيرك أو بكت
…
فلا أعطيت ما منّيت وتمنّت
وإن أضمرت يوما سواك فلا رعت
…
رياض المنى من وجنتيك وجنّة
وأنشد لنفسه «1» :
جبلت روحك في روحي كما
…
يجبل العنبر بالمسك الفتق
فإذا مسّك شيء مسّني
…
فإذا أنت أنا لا نفترق
وأنشد لنفسه «2» :
دلال يا خليلي مستعار
…
دلال بعد أن شاب العذار؟
ملكت- وحرمة الخلوات- قلبا
…
لعبت به وقرّ به القرار
فلا عين يؤرّقها اشتياق
…
ولا قلب يقلقله ادّكار
نزلت بمنزل الأعداء مني
…
وبنت، فلا تزور، ولا تزار
" كما ذهب الحمار بأم عمرو
…
فلا رجعت ولا رجع الحمار"
وأنشد عبد الرحيم بن أحمد الحلي قال: أنشدني الحلاج لنفسه، وقد ذكرت لديه الدنيا وأحوالها:
دنيا تغالطني كأني
…
لست أعرف حالها
حظر المليك حرامها
…
وأنا احتميت حلالها
فوجدتها محتاجة
…
فوهبت لذّتها لها
وقد حكي عنه، أنه لما خرج ليقتل، خرج غير جازع، ولا أسف، وجعل يقول:" آن لقاء الحبايب".
وحكى السّلمي عن العطوفي، قال: كنت أقرب الناس من الحلاج، فضرب كذا وكذا سوطا، وقطعت يداه ورجلاه
…
فما نطق!.
وحكي عنه: إنه لما قدّم للقتل، أسفر وجهه، ثم اربدّ، وهمهم بشفتيه، ثم أنشد:
طلبت المستقرّ بكل أرض
…
فلم أر لي بأرض مستقرّا
وذقت من الزمان وذاق مني
…
وكان مذاقه حلوا ومرّا
أطعت مطامعي فاستعبدتني
…
ولو أني قنعت لكنت حرّا «1»
وقد ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أنه قال- وهو مصلوب:" إلهي! أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب، إلهي! إنك تتودّد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك؟! "«2» .
ومنهم:
31-
أبو عبد الله أحمد بن يحيى «3» الجلّاء «13»
سابق بلغ المدى، وقتل أطماعه ببتّ العلائق وودى، وكان بطل كتيبة، ورجلا له كرامات عجيبة، وأخا غرائب لا تؤاخى، ولا يأتي بها الزمان وإن تراخى، طالما بهر العيون وملاها، وأظهر ما عجب الظنون وملاها، ولم يزل تبارح به غرف العرفان، ويتبلج صبح الحق حتى أدرج في الأكفان، فروّض ثرى حلّه، وسقى الله دياره غير مفسدها، وساق إليها مثل أخلاق موسدها، وطاب حيا للأتراب، وميتا في التراب مضطجعا.
أقام بالرملة «1» ، ودمشق، وكان من جلّة مشايخ الشام. «2»
صحب أباه، يحيى [الجلاء] ، وأبا تراب النخشبي، وذا النون المصري، وأبا عبيد البسري «3» وكان عالما ورعا، وهو أستاذ محمد بن داود الدّقّي. «4»
روي عنه أنه قال لأبيه وأمه:" أحبّ أن تهباني لله عز وجل" فقالا: قد وهبناك لله.
فغبت عنهما مدّة، فلما رجعت كانت ليلة مطيرة، فدققت الباب، فقال لي أبي: من ذا؟.
قلت: ولدك أحمد.
فقال: كان لنا ولد، فوهبناه لله تعالى، ونحن من العرب، لا نسترجع ما وهبناه. ولم يفتح لي. «5»
وقال له رجل: على أي شيء أصحب الخلق؟.
فقال:" إن لم تبرّهم فلا تؤذهم، وإن لم تسرّهم فلا تسؤهم."«6»
وقال:" الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، لتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض".
وقال محمد بن ياسين: سألت ابن الجلاء عن الفقر؟.
فسكت، ثم ذهب، ورجع عن قريب، ثم قال: كان عندي أربعة دوانيق، فاستحييت من الله تعالى أن أتكلم في الفقر، فأخرجتها
…
!. ثم قعد وتكلم في الفقر «1» .
وقيل له: ما معنى الصوفي؟.
فقال:" ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف فقيرا مجردا من الأسباب، كان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه العلم من علم كل مكان، يسمى صوفيا"«2»
وقال: اشتهت والدتي على والدي يوما سمكة، فمضى والدي إلى السوق وأنا معه، فاشترى سمكة ووقف ينظر من يحملها؟. فرأى صبيا واقفا حذاءه، فقال: يا عم!
…
تريد من يحملها؟. قال: نعم. فحملها ومشى معنا، فسمعنا الأذان. فقال الصبي: أذّن المؤذن، وأحتاج أن أتوضأ وأصلي. فإن رضيت وإلا فاحمل السمكة!؛ ووضعها الصبي ومضى.
فقال أبي: نحن أولى من أن نتوكل بالسمكة. فدخلنا المسجد وصلينا جميعا، وخرجنا من المسجد. وإذا السمكة موضوعة على حالها، فحملها، ومضى معنا إلى دارنا. فذكر والدي ذاك لوالدتي، فقالت: يقيم عندنا حتى يأكل معنا. فقلنا له. فقال: إني صائم. قلنا: فتعود إلينا بالعشي؟. فقال: إذا حملت في اليوم مرة، فلا أحمل ثانيا. فأدخل المسجد إلى المساء، ثم أدخل عليكم بالعشي. فلما أمسينا دخل الصبي علينا فأكلنا، فلما فرغنا، دللناه على موضع الطهارة، ورأيناه يؤثر الخلوة، فتركناه في بيت.
وكان لقريب لنا ابنة زمنة، فلما كان في بعض الليل، وإذا بها قد جاءت تمشي!.
فسألناها عن حالها؟. فقالت: قلت:" يا رب! بحرمة ضيفنا إلا ما عافيتني
…
فقمت! ".
قال: فمضينا نطلب الصبي؛ فإذا الأبواب مغلقة كما كانت، ولم نجده. فقال أبي: منهم كبير وصغير. «3»
وقال: دخلت المدينة، وبي فاقة، فتقدّمت إلى القبر، وقلت:" ضيفك يا رسول الله!،