الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال «1» في ظله، فلم ينتبه إلا في رجل أتاه بزنبيل «2» فيه من كل ما في السوق من حارّ وحلو وحامض، ثم قال له: يا عبد الله! كل، فأمسك. فقال له: كل، فأنت ما سألت، وإنما سئلت. فأكل ثم رفع يده، فقال له: كل، يا عبد الله!، للأيام التي لم تأكل فيها من غزة إلى هنا، وللأيام التي تريد أن لا تأكل فيها من هنا إليغزة، وارجع من حيث أتيت، فقد انقضى شغلك الذي جئت في طلبه بمصر.
قال: فأكل الفقير أكلا ما كان يعهده من نفسه، ولا يظنه، حتى أتى ما في الزنبيل عن آخره، ثم ناوله ذلك الرجل ماء مبرّدا، فشرب منه، ثم قال له: قم، فارجع. فقام، فرجع، وقد انقضى شغله، ووصل ما كان أراد، ولما توفي الشيخ حمّاد في [
…
] «3» ، حضرت جنازته، فلم أر يوم دخول السلطان إلى مدينة، ولا يوم خروج حاج، ولا يوم عيد، كان أحفل من جنازته، وكان الناس منتشرين من مرج الدحداح بموضع موته، إلى مقابر باب الصغير، موضع دفنه، ما لأحد موضع أكثر من مكان قدمه، وشهدها عامّة أهل دمشق.
ومنهم:
79- محمد بن نبهان
«13»
من بيت ما منهم إلا ولي تتشبث ذيله المطر، ويتشبه به النسيم إذا خطر، بناة عليا، وأساة قلوب أموات وأحيا، وما زالوا غيوم سما، ونجوم ظلما، وفي كل وقت منهم رجل شقيق شفيق، وسر السرى في علم التحقيق، سكنوا بيت جبرين «4» من البلاد الحلبية، فهبّ
نسيمهم شمالا، ووهب كرمهم آمالا، وكانت تأتيني أخباره كما يقذف الروض بنشره، وكان السبب في المعرفة به الشيخ التقي عبد الله بن الخطيب، فكتبت إليه كتابا مضمونه:
قيل جبرين منزل لابن نبهان
…
محوط بمحكم التنزيل
قد تبدا محمد في رباها
…
علما للسارين وابن السبيل
بوقار كأنه الليل خوفا
…
وجبين نيّر كالقنديل
ليس يخشى الضلال من أمّ منه
…
حضرة أشرقت على جبريل
سلام الله وتحياته وبركاته على تلك الحضرة الطاهرة، جمعنا الله وإياها على التقوى في الدنيا والآخرة.
حضرة سيدي الشيخ السيد القدوة المسلّك، جامع الطرائق، منتخب الحقائق، أبي عبد الله محمد بن سيدي الشيخ نبهان، نبّه الله القلوب به، ونوّر البصائر بأغلاقها.
نسبته العبد الفقير المعترف بالتقصير أحمد بن فضل الله «1» . لما زاد شوقه إلى هذه الحضرة المقدسة، لما سمع من أخبارها، واقتبس قلبه الكليم من أنوارها، وكان الشيخ تقي الدين بن الخطيب ممن اتفق معرفته من الإخوان، وكان من نبهاء الطائفة المنسوبة إلى نبهان، وأخذ بزمام القلوب إلى الانتظام في هذا العديد، وجد بها إلى هذه النسبة الشريفة، وإن كان لا يصلح لها نبوة كل مزيد.
كتب العبد الفقير الراغب في القبول له، والإقبال عليه، هذه الأحرف حال وداعه متعرفا إلى هذا الجناب، ومتعلقا منه بأدنى الأسباب، فإن فتح له، وإلا فكسير لا ينثني وهو وراء الباب.
ثم كانت بيننا المكاتبات لا تنقطع، وكنت أتمنى لقاءه، ولم أستطع، وكان على قدم آبائه في إطعام كل زائر، وبر كل آمل، وإعانة كل مظلوم، وإغاثة كل ملهوف، ولم يزل أمراء حلب تجل أقدارهم، وتستأمر مستشارهم.
ولما قدمت حلب سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، رأيت هذا الشيخ وقد جاء إلى الطنبغا ملك الأمراء، مسلّما عليه، فرأيت رجلا يملأ العين والصدر سيماؤه على جلالة القدر.
ولما اجتمع بالطنبغا أكرمه إكراما يليق بمثله، وعامله معاملة عارف بفضله، إلا أن الشيخ أنكر عليه ما فعله بطشتمر، وخوّفه عاقبة البغي، ويوشك أن يؤخذ قريبا، فثقل عليه كلامه، وقام الشيخ وقد طال عليه مقامه هذا، ولم نأت الأخبار بقصد الفخري دمشق، إلا أنه قد طاح إلي الخبر سرا، ولم نظهر عليه أحدا، إلا أنا والطنبغا. ثم لم نلبث أن جاءت الأخبار، فلما كان يوم الجمعة الآتية في أسبوع قدومنا، صلينا الجمعة في جامع الطنبغا، قريبا من سوق الخيل بحلب، فقيل لي: إن الشيخ في بيت له، فدخلت، وجلست إليه، وأخذنا في الحديث، فقال لي: يا أخي! هذا الرجل قد آن أن يطل دمه، وأرى النصح لا يلج أذنه، فعرفته خبر الفخري، وما كان منه، فقال: هذا الرجل ينهزم من قدامه كما انهزم طشتمر من قدام هذا، ثم يقتل هذا، وكان الأمر كما ذكر. ثم إن الشيخ لم يجتمع بالطنبغا، بعد تلك المرة، وحرض به أن يعود إليه، فما عاد، وهمّ بأن يتوجه لزيارته، فعاقت دون ذلك العوائق.
قلت: وأهل هذا البيت لهم زرع ومتجر، ومنه ينفقون نفقات موسعة، وكانت قد تأكدت بيني وبينه الصحبة في الله تعالى، منذ تلاقينا بحلب.
ومما كتبت به إلى رجلين سافرا إلى حلب:
بالله إن جئتما بلادا لها
…
ابن نبهان كالحلي
تأملا منه أي بر
…
وفيه يخر لكل ري
وعارضا النو في رباه
…
وقبّلا عارض الولي
ثم لم تلبث الأخبار أتت بوفاته، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
ومما كتبت فيه أعزي بيته من قصيدة وافق فيها تضمين بيت أبي تمام الرابع: