الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
53- الشّيخ أبو عمر محمّد بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسيّ
«13»
أخو الشيخ موفق الدين الحنبلي الزاهد.
رقى السماء فوق صفائحها، وأبدى الأنباء وفق صحائحها. ووالى أعماله أرسالا، وأيقظ أعماله والرياح كسالى، وعزم اعتزاما مسح بالنجوم راسه، ومسك بخيوط الغيوم أمراسه، فلم يلتفت إلى الدنيا ومغازلتها، ولا انفتل إلى مقاتلتها، على الدنايا ومنازلتها، تحليقا إلى دار نعيمها سرمدا، ونسيمها لا يرى منه من شكوى الهوى أرمدا، فقطع الغاية مسرعا، ورفع حيث أراد ممرعا، من قوم كانوا أهل علو وعلوم، وفي أموالهم حق معلوم، وكان غماما به يستسقى، وإماما عنه الدين يتلقّى.
ويقال إنهم من بني الفاروق «1» ، ثم من ولده عبد الله، ولا يعرف إلى من هم بنيه، ولا إلى أب في النسب يليه، إلا أنهم في الذرية العمرية من معدن شرف، ومثوى كرم، ما يحل منه في طرف.
ولد سنة ثمان وعشرين وخسمائة، بقرية" الساويا" من أعمال نابلس «1» ، وقيل: ب" جمّاعيل".
قال أبو المظفر [الواعظ]«2» سبط ابن الجوزي:" حدثني أبو عمر قال: هاجرنا في بلادنا، فنزلنا بمسجد أبي صالح بظاهر باب شرقي، فأقمنا به [مدة] ، ثم انتقلنا إلى الجبل، فقال الناس:" الصالحية، الصالحية! " ينسبونا إلى مسجد أبي صالح، لا أننا صالحون، ولم يكن بالجبل عمارة إلا دير الحوراني وأماكن يسيرة.
قال أبو المظفر:" وكان معتدل القامة، حسن الوجه، عليه أنوار العبادة، لا يزال متبسّما، نحيل الجسم من كثرة الصلاة والصيام، والقيام"«3» .
قرأ القرآن بحرف أبي عمرو، وحفظ" مختصر الخرقي" في الفقه، وقرأ النحو على ابن بري بمصر، وسمع الحديث بدمشق ومصر. واشتغل بالعبادة عن الرواية، وكتب [الكثير بخطه المليح من المصاحف والكتب مثل:] " الحلية" لأبي نعيم، و" تفسير البغوي"، و" المغني" لأخيه «4» ، و" الإبانة" لابن بطّة، ومصاحف كثيرة، للناس ولأهله، وكتبا كثيرة، الكل بغير أجرة.
وكان يصوم الدهر، إلا من عذر، ويقوم الليل من صغره، ويحافظ على الصلوات في الجماعات، ويخرج من ثلث الليل الأخير إلى المسجد في الظلمة، فيصلي إلى الفجر، ويقرأ في كل يوم سبعين من القرآن، بين الظهر والعصر، ويقرأ بعد العشاء الآخرة آيات الحرس، و" ياسين" و" تبارك" و" الواقعة"، والمعوذتين، و" قل هو الله أحد"، وإذا ارتفعت الشمس لقّن الناس القرآن إلى وقت الضحى، ثم يقوم فيصلي ثماني ركعات، ويقرأ" قل هو الله أحد"
ألف مرة، ويزور المقابر بعد العصر في كل جمعة، ويصعد يوم الاثنين والخميس إلى مغارة الدم ماشيا بالقبقاب، فيصلي فيها ما بين الظهر والعصر، وإذا نزل جمع" الشّيح" من الجبل وربطه بحبل وحمله إلى بيوت الأرامل، واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدراهم، والدقيق، ولا يعرفونه، ولا ينام إلا على طهارة، ومتى فتح له بشيء من الدنيا آثر به أقاربه، وغيرهم، ويتصدّق بثيابه، وربما خرج الشتاء وعلى جسده جبّة بغير ثوب [من تحتها يتصدق بالتحتاني] ، ويبقى مدة طويلة بغير سراويل، وعمامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خرقة، أو مات صغير يحتاج إلى كفن قطع له منها قطعة، وكان ينام على الحصير، ويأكل خبز الشعير، وثوبه خام إلى أنصاف ساقيه، وما نهر أحدا ولا أوجع قلب أحد، وكان يقول:" أنا زاهد ولكن في الحرام! ".
ولما نزل صلاح الدين على القدس كان هو وأخوه الموفق في خيمة، فجاء العادل إلى زيارته، وهو في الصلاة فما قطعها، ولا التفت، ولا ترك ورده، وكان يصعد المنبر وعليه ثوب خام مهدول الجيب، وفي يده عصا، فما قطعها، ولا التفت، والمنبر يومئذ ثلاث مراقي، وكان يحضر الغزوات مع صلاح الدين.
قال أبو المظفر «1» : وكراماته كثيرة؛
فمنها: أني صليت يوم جمعة بجامع الجبل في سنة ست وستمائة، والشيخ عبد الله اليونيني «2» إلى جانبي، فلما كان في آخر الخطبة والشيخ أبو عمر يخطب، نهض الشيخ عبد الله مسرعا، وصعد إلى مغارة توبة، وكان نازلا بها، فظننت أنه احتاج إلى وضوء أو آلمه شيء، فصلّيت وطلعت وراءه، وقلت له: خير ما الذي أصابك؟، فقال: هذا أبو عمر ما تحل خلفه صلاة!، يقول على المنبر:" الملك العادل" وهو ظالم! فما يصدق!!!.
وكان أبو عمر يقول:" اللهم وأصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن أيوب".
فقلت: إذا كانت الصلاة خلف أبي عمر لا تصح، فيا ليت شعري خلف من تصح؟.
وخطر لي قول عبد الرحمن بن عوف لما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمشي في أزقّة المدينة، فتبعه، فأتى بيت عجوز، فدخله، قال: فدخلت لأبصر ما يصنع؟. فتواريت، وإذا به قد خرج من عندها، فدخلت بعده وقلت للعجوز: ما كان هذا يصنع عندك؟. فقالت:
يحمل إليّ ما آكل ويخرج الأذى عني!!!.
قال عبد الرحمن: فقلت في نفسي: ويحك يا عبد الرحمن! أعثرات عمر تتبع؟.
قال أبو المظفر: وبينا نحن في الحديث، إذ دخل الشيخ، وسلّم، وحلّ مئزره وفيه رغيف وخيارتان، فكسر الجميع، وقال: بسم الله الصلاة، ثم قال ابتداء:" قد روي في الحديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولدت في زمن الملك العادل كسرى)«1» .
فنظر إليّ الشيخ عبد الله وتبسّم، وأكل، وقام الشيخ أبو عمر فنزل، فقال لي الشيخ عبد الله: ماذا إلا رجل صالح.
قال أبو المظفر «2» : وأصابني قولنج، عانيت منه شدة، فدخل علي أبو عمر وبيده خرّوب شامي مدقوق، فقال: استفّ هذا. وكان عندي جماعة فقالوا: هذا يزيد القولنج!، ويضرّه. فما التفت إلى قولهم، وأخذته من يده فأكلته، فبرأت في الحال.
قال: وجاءه رجل مغربي فقرأ عليه القرآن، ثم غاب عنه مدة، وعاد، فلازمه، فسئل عن ذلك؟ فقال: دخلت ديار بكر، فأقمت عند شيخ له زاوية وتلاميذ، فبينا هو ذات يوم جالس بكى بكاء شديدا، وأغمي عليه، ثم أفاق، وقال: مات القطب الساعة!، وقد أقيم أبو عمر شيخ الصالحية مقامه!.
قال: فقلت له: ذاك شيخي!. قال: فأيش قعودك هنا؟. قم فاذهب إليه، وسلّم إليه
عني، وقل له: لو أمكنني السعي إليه لسعيت. ثم زودني، وسافرت.
قال أبو المظفر: وقلت له يوما أول ما قدمت الشام- وما كان يرد أحدا في شفاعة- وقد كتب رقعة إلى الملك المعظّم:" كيف تكتب هذا والملك المعظّم على الحقيقة هو الله؟.
فتبسّم، ورمى إليّ الورقة، وقال: تأمّلها. وإذا به لما كتب" الملك المعظّم" كسر الظاء، فصار" المعظّم". وقال: لا بد أن يكون يوما قد عظّم الله تعالى.
قال: فعجبت من ورعه، وتحفّظه في منطقه عن مثل هذا.
قال أبو المظفر: وقال أبو عمر يوما للمبارز المعتمد: قد أكثرت عليه من الرقاع والشفاعات!. فقال له: ربما تكتب إليّ في حق أناس لا يستحقون الشفاعة، وأكره ردّ شفاعتك. فقال له الشيخ: أنا أقضي حق من قصدني، وأنت إن شئت فاقبل، وإن شئت فلا تقبل. فقال: ما أردّ ورقتك أبدا.
قال أبو المظفر: وكان سبب موته أنه حضر مجلسي بالجامع بقاسيون، مع أخيه الموفّق، والجماعة. وكان قاعدا في الباب الكبير، وجرى الكلام في رؤية الله ومشاهدته، واستغرقت، وكان وقتا عجيبا فقام أبو عمر من جانب أخيه، وطلب باب الجامع ولم أره، فالتفت وإذا بين يديه شخص يريد الخروج من الجامع، فصحت على الرجل: اقعد.
فظنّ أبو عمر أنني أخاطبه، فجلس على عتبة باب الجامع الجوانية، إلى آخر المجلس، ثم حمل إلى الدير فكان آخر العهد به، وأقام أياما مريضا، ولم يترك شيئا من أوراده، فلما كان عشيّة الاثنين، ثامن عشر ربيع الأول سنة سبع وستمائة، جمع أهله، واستقبل القبلة، ووصاهم بتقوى الله، ومراقبته، وأمرهم بقراءة" يسن"، وكان آخر كلامه: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
«1» ، وتوفي.
وغسّل وقت السّحر، ومن وصل إلى الماء الذي غسّل به نشّف به؛ النساء مقانعهنّ،
والرجال عمائمهم.
ولم يتخلف عن جنازته أحد، ولما خرجوا بجنازته من الدير، كان يوما شديد الحر، فأقبلت غمامة فأظلّت الناس إلى قبره!. وكان يسمع منها دويّ كدويّ النحل.
قال أبو المظفر: ولولا المبارز المعتمد والشجاع بن محارب، وسيف الدولة الحسامي ما وصل إلى قبره من كفنه شيء!. وإنما أحاطوا به بالدبابيس «1» والسيوف.
وكان قبل وفاته بليلة رأى إنسان كأنّ قاسيون وقع، أو زال من مكانه، فأوّلوه: موته.
ولما دفن رأى بعض الصالحين النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من زار أبو عمر ليلة الجمعة، فكأنما زار الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أن تصلوا إليه. ومات عن ثمانين سنة.
قال أبو المظفر: وأنشدني أبو عمر لنفسه:
ألم يك ملهاة عن اللهو أنني
…
بدا لي شيب الرأس والضعف والألم
ألمّ بي الخطب الذي لو بكيته
…
حياتي حتى ينفد الدمع لم ألم «2»
قال: وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة، متمسكا بالكتاب والسنة، والآثار المروية، يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
وأنشد لنفسه أيضا:
أوصيكم بالقول في القرآن
…
بقول أهل الحق والإتقان