الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتدفع آفة حب الرياسة: بإيثار الخمول.
والمريد الصادق: الله تعالى مراده وقصده، والصّدّيقون إخوانه، والخلوة بيته، والوحدة أنسه، والنهار غمه، والليل فرحه، ودليله قلبه، والقرآن معينه، والبكاء والجوع أدمه، والعبادة رياضة نفسه، والمعرفة قياده، والحياة سفره، والأيام مراحله، والورع طريقه، والزهد قرينه، والأحوال منازله، والصبر شعاره، والسكون دثاره، والصدق مطيته، والعبادة مركبه، وخوف الفوت مستحثه. وأنشد:
إن الذين بخير كنت تعهدهم
…
مضوا عليك، وعنهم كنت أنهاك
لا تطلبنّ حياة عند غيرهم
…
فليس يحييك إلا من توفّاك
ومنهم:
26- أبو القاسم الجنيد بن محمّد
«13»
سيد الطائفة، وإمامهم. «1»
أفعم أودية المعارف وأفاضها، ولبس منها أسنى المطارف وفضفاضها، إلى علوم تحقّق،
وعلوّ مراتب عليها أردية النفوس تشقق. جمع بين الطريقتين، وتصدّر في جميع الفريقين، ولم يكن فيهم منكرا أنه حامل لوائهم، وحامي سرحهم عند لأوائهم، فكان هو بينهم المنادى المفرد العلم، والواحد الفرد حلّ حيث حلّ من العظم، فاض منه بحر لم يبق منه جدول إلا اختطفه في تياره، واقتطفه ورق النّصال ببتّاره. ويحكى أنه كان لا يرى إلا في زي مريد، وزيادة تواضع ما عليه مزيد.
أصله من نهاوند «1» ، ومنشؤه ومولده بالعراق، وأبوه كان يبيع الزجاج فلذلك يقال له" القواريري".
وكان أبو القاسم يبيع الخزّ، فقيل له:" الخزاز"«2» وكان فقيها على مذهب" أبي ثور". «3» صحب السري، والحارث المحاسبي، ومحمد بن علي القصاب «4» ، وغيرهم.
توفي سنة سبع وتسعين ومائتين «5» .
وقال الجنيد:" ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع؛ وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات"«1» .
وقال لرجل ذكر المعرفة:" أهل المعرفة بالله: يصلون إلى ترك الحركات «2» من باب البر، والتقرب إلى الله عز وجل". «3»
فقال الجنيد:" إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عالم لم أنقص من أعمال البرّ ذرّة، إلا أن يحال بي دونها."«4»
وقال:" إن أمكنك أن لا تكون آلة في بيتك إلا خزفا، فافعل". «5»
وقال:" الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم". «6»
وقال:" لو أقبل صادق على الله تعالى ألف، ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة، كان ما فاته أكثر مما ناله". «7»
وقال:" من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر «1» ، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة". «2»
وقال:" مذهبنا هذا مقيد بالأصول؛ الكتاب والسنة"«3» .
وقال:" علمنا هذا مشبّك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"«4» .
وقال أبو الحسين علي بن إبراهيم الحداد: حضرت مجلس القاضي أبي العباس ابن سريج «5» [الفقيه الشافعي] ، فتكلّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه، فلما رأى إعجابي قال:" أتدري من أين هذا؟ ".
قلت: يقول به القاضي.
فقال:" هذا ببركة مجالستي أبي القاسم الجنيد."«6»
وقيل للجنيد: ممن استفدت هذا العلم؟.
فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة، وأومأ إلى درجة في داره. «7»
ورؤي في يد الجنيد سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟. فقال: طريق به وصلت إلى ربي لا أفارقه. «8»
وكان الجنيد يدخل كل يوم حانوته، ويسبل الستر، ويصلي أربعمائة ركعة، ثم يعود إلى بيته. «1»
وقال أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات، فرأيته ختم القرآن
…
ثم ابتدأ من البقرة، وقرأ سبعين آية، ثم مات رحمه الله تعالى. «2»
وقال الجنيد:" قال لي خالي سريّ السّقطيّ رحمه الله تعالى:" تكلّم على الناس" و [كان] في قلبي حشمة من الكلام على الناس، فإني كنت أتّهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت ليلة جمعة- فقال لي:" تكلم على الناس! "، فانتبهت، وأتيت باب السّريّ قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال:" لم تصدّقنا حتى قيل لك؟! ". فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس. فوقف عليّ غلام نصراني، متنكر، وقال:" أيها الشيخ! ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)«3» ؟.
فأطرقت، ثم رفعت رأسي، وقلت: أسلم!، فقد حان وقت إسلامك!. فأسلم الغلام «4» .
وقال الجنيد:" ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها.
قيل له: وما هي؟.
قال: مررت بدرب القراطيس، فسمعت جارية تغني من دار، فأنصتّ لها، فسمعتها
تقول:
إذا قلت: أهدى الهجر لي حلل البلى
…
تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت: هذا الحب أحرقه الهوى
…
تقولي: بنيران الهوى شرف القلب
وإن قلت: ما أذنبت. قلت مجيبة
…
حياتك ذنب لا يقاس به ذنب
فصعقت، وصحت
…
!.
فبينا أنا كذلك، إذا بصاحب الدار قد خرج، فقال: ما هذا يا سيدي؟!.
فقلت له: مما سمعت.
فقال: أشهدك أنها هبة مني إليك.
فقلت: قد قبلتها، وهي حرة لوجه الله تعالى.
ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرباط، فولدت له ولدا نبيلا، ونشأ أحسن نشوء، وحجّ على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة. «1»
" عن الحلية"«2» الصوفية، أنها حكت بسندها إلى الجنيد، قال:" كنت لهجا بزيارة الرهبان، والمنقطعين إلى العبادة من سائر الأديان، فحكي لي: إن في أقصى بلاد الروم جارية فتيّة السن، قد اتخذت وتدا من حديد، وعارضة، وغلّت يدها وعنقها إليه، وتعلّقت بين السماء والأرض، لا تقرّ من العبادة!، فاجتهدت إلى أن وصلت إلى ذلك الموضع، ورفعت رأسي إليها، فحين بصرت بي قالت لي: يا أبا القاسم! إن لم يكن حقا فهو حقيقة!!!.
و [قال أبو محمد الجريري] : كان في جوار الجنيد رجل مصاب [في خربة] ، فلما مات الجنيد [ودفنّاه، تقدّمنا ذلك المصاب، وصعد موضعا رفيعا وقال لي:" يا أبا محمد! تراني أرع إلى تلك الخربة بعد أن فقدت ذلك السيد؟! ".