الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين! أنت رجل فقير مهما حضر قنعت به، شارك الكل وكل معهم.
وحدّثني شيخنا نجم الدين موسى بن علي الكاتب المجوّد، عرف بابن البصيص، فيما يحكي عن أبيه قال: كان شخص من أبناء الأمراء عند أبي في المكتب، يتعلم الخط، فلما خرج من المكتب، سمع الحديث، وتفقّه، وكان له ذكاء، وعنده قابلية واستعداد، فبرع، ثم إنه جاء يوما إلى أبي إلى المكتب ليزوره ويوصيه بأخ له صغير، كان قد أتى به إليه ليعلّمه، فجلس إلى أبي، وشرع يحدّثه، فجرى ذكر الشيخ الحريري، فأخذ ذلك الشاب يقع فيه ويقول: رجل مبتدع صفته نعته، وبالغ في ذكره بالسوء، فما أتم كلامه إلا وقد أقبل الشيخ في خلق من أصحابه، فوقف على المكتب، ونظر إلى ذلك الشاب ثم قال له: دع كل شيء كنت فيه، وخلّ هذا الفشار من رأسك، وقم انزل.
فقام الشاب إلى الشيخ، وقبّل يده، فطلب الشيخ مقصا ثم قصّ شعره، وألبسه طاقية على رأسه، وثوبا من ثياب الفقراء، ثم مشى الشيخ، فمشى الشاب معه، ثم صحبه صحبة كانت إلى آخر العمر.
ومنهم:
62- عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد اليونينيّ
«13»
جلا الرتب ومزّقها، ومحا بصباح جبينه الأهلّة ومحقها، صام الهواجر، وقام الليالي الطوال مغرورق المحاجر، وأنينه أنيسه، وجلوسه منفردا جليسه، فأنس بالله دون خلقه، وجلس في كسر بيته لأداء حقه، وعمل لجنّة يدوم نعيمها، وتهبّ بحياة النفوس نسيمها، وفرّ من النار فرار الآبق، وقرّ به القرار ودمعه السابق.
قال أبو محمد عبد الله بن عمر المقدسي- فيما جمعه من أخبار الشيخ عبد الله اليونيني وأصحابه-: ومنهم ذو المنظر المهول، والسيف المسلول، لم يكن بالكلام قوول، ولا في العمل ملول، رئيس القوم، ومحيي الليل بالتهجّد والنهار بالصوم، سلّاب الأحوال «1» ؛ الشيخ عيسى. فروى بسنده عن إبراهيم بن مسمار قال: صحبت الشيخ عيسى أربعين سنة، ما رأيته أكل فيها بالنهار.
وقال محمد بن عبد القادر اليونيني: جاء الملك الصالح إسماعيل إلى عند الشيخ واستأذن عليه ثلاث مرار، فلما اجتمع به قال له: يا سيدي! أشتهي أن أوقف عليك يومين، فامتنع من ذلك، فقال: أبني ها هنا رواقا، فقال له: ما أشتهي يكون عندي من يصدّعني.
وقال أحمد بن عثمان بن إلياس: صحبت الشيخ عيسى خمسين سنة، فحدّثنا يوما قال: ورد إليّ جماعة وتحدّثوا في كرامات الأولياء، فقلت: أعرف رجلا لو قال لهذه الحجارة: صيري ذهبا وفضة، صارت.
فقلت: يا سيدي!، ذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه ورد إلى عنده جماعة، وتحدّثوا بمثل هذا، فقال إبراهيم: أعرف رجلا لو قال لهذا الجبل: زل، لزال!. فاهتزّ الجبل، فقال له إبراهيم: اسكن!، فسكن. فأنت لما قلت هذه المقالة صارت الحجارة ذهبا. قال: فاحمرّ وجهه، ودخل فحصل عندي مثل أني أسأت الأدب قدّامه، فلما كان بعض الليالي، توضّأ، ووقف على حجر ينشف وجهه، ويحرك الحجر برجليه، فالتفت إليّ وقال: يا أحمد! أيش كنت تقول؟. فقلت: يا سيدي! أنا أستغفر الله. قال: قال إبراهيم: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
«2» فنظرت، وإذا بالحجر يلمع ذهبا!. فصحت وأغمي عليّ، فأراد الفقراء يقيموني، فقال: خلوه، فلما أفقت، اجتمعت ببعض أصحاب الشيخ، وقلت: يا فلان! ما يعرف أحد الشيخ، فقد رأيت منه كذا وكذا. ثم دخلت على الشيخ فعنّفني، ولا مني لكوني حكيت ما رأيت. وقال: يا ما فاتك مني؟.
وقال إسماعيل بن إبراهيم بن سلطان: كنت قرأت نصف الختمة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، ونسيتها، فسألني الشيخ عيسى: أيش قرأت؟. قلت: كذا وكذا، ونسيتها، فلما أردت أن أفارقه ضمّني إلى صدره، فحفظت بعدها القرآن.
وقال عبد الولي بن عبد الرحمن الخطيب: لما دخل الخوارزمية جاء وال لهم إلى" يونين"، وطلب من الفلاحين شيئا ما لهم به قوة، فشكى الفلاحون إلى الشيخ ما يقاسونه من الوالي. فاتّفق أن الوالي طلع إلى عند الشيخ، فقال له: ارفق، فهؤلاء فقراء. فقال: ما لي إلى هذا سبيل.
فبقي الشيخ يردد عليه ويقول: مالي إلى هذا سبيل. فنظر إليه الشيخ وأطال النظر، فخبط الأرض، وأزبد، فلما أفاق، انكبّ على رجلي الشيخ، واعتذر، ونزل، فقال للخوارزمية: من أراد أن يموت يطلع إلى الضيعة، أو ما معناه «1» .
ولما مرض الشيخ مرض الوفاة جاء فقير إلى السياج الذي عند زاويته، وقال له: يا عيسى تعال فقام إليه فقال: هات أذنك، فقدّم إليه أذنه، فشاوشه، وراح. فلما رجع الشيخ سأله الجماعة عما قال له؟. فقال: أيش تريدون؟ فلما ألحّوا عليه، قال لهم: قال لي: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: تهيّأ للقدوم. فمات بعد اثني عشر يوما، والجماعة خبّروني بهذا.
توفي في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وستمائة.
وقد ذكره ابن اليونيني «2» ، ورفع نسبه إلى كرز بن وبرة، وكرز في الطبقة الرابعة من أهل الكوفة. وكان زاهدا عابدا، [خائفا مجتهدا] يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فيضربونه حتى يغشى عليه. وكان يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات «3» . ولم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة، حياء من الله تعالى.
وقال أبو سليمان «1» المكتب: صحبت كرزا إلى مكة، فكان ينزل فيصلي، فرأيت يوما سحابة تظلّه، وكان يوما شديد الحر، فقال: اكتم علي. وقد ذكره أبو نعيم «2» وغيره.
عدنا إلى ذكر الشيخ صاحب هذه الترجمة:
قال ابن اليونيني: صحب الشيخ الكبير عبد الله اليونيني، وانتفع به، وكان من أعيان أصحابه، وانقطع بزاويته بقرية" يونين" من عمل بعلبك، معرضا عن الدنيا وأهلها. يقوم الليل، ويسرد الصوم، [وبقي على ذلك سنين كثيرة، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في زاويته بقرية يونين، في رابع ذي القعدة، ودفن بها، وهو في عشر الثمانين تقريبا]«3» ، وكان من الأولياء الأفراد، ولم يتزوّج لاستغراق أوقاته بذلك، لكنه عقد عقدا على عجوز كانت تخدمه، لاحتمال أن تمس يده يدها «4» ، والناس عنده سواء في المعاملة.
قال: وبلغني أن البادرائي قصد زيارته، فجاءه عند صلاة المغرب، فصلى الشيخ، وقام ليدخل إلى خلوته على عادته، فاستوقف له حتى أتاه فسلّم عليه، وسأله الدعاء، ثم أخذ في محادثته، فقال له الشيخ: رحم الله من زار وخفّف. وتركه ودخل [إلى خلوته] . «5»
قال: وكانت شفاعاته عند ولاة الأمور مقبولة، وله الحرمة العظيمة عند سائر الناس، والمهابة في الصدور، مع لطف أخلاقه، ولين كلمته.
وله الكرامات الظاهرة، وإذا حضر له أحد من [المشايخ و]«6» أرباب القلوب [إلى يونين، قصد زيارته و] تأدّب معه غاية الأدب، وأما هو فلا يمشي إلى أحد البتة. ومن سلك منهم معه غير الأدب سلب. «7»
قال: وكانت بينه وبين والدي صداقة، وكنت آتيه مع أبي فيقبل علي، ويتلطّف بي، فلما كانت السنة التي مات فيها، كان والدي يأمرني بكثرة التردد إليه، [كأنه استشعر قرب أجله وأحس به، فكنت بعد كل يوم أتردد إليه فقصدته مرة في أول شوّال من هذه السنة، ومعي ناصر الدين علي بن فرقين، والشمس محمد بن داود رحمهما الله، فدخلنا عليه وليس عنده غيرنا، وشرع]«1» فحدّثنا، ثم استغرق عن غير قصد منه لذلك، ثم أفاق من غشيته، وقد انقطع الحديث، فسألناه إتمامه وألححنا في السؤال فقال:
من سارروه فأبدى السرّ مشتهرا
…
لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يحظ بقربهم
…
وبدّلوه مكان الأنس إيحاشا
قال: وكان مضمون ذلك الحديث: أنه أنذر بدنو أجله، ثم لم يلبث أن مرض ومات، ودفن إلى جانب الشيخ عبد الخالق، وكان من أبر الصلحاء. «2»
قال: حدثني أبو طالب بن أحمد اليونيني: أن الشيخ عيسى أخبره بما يكون من زوال ملك بني أيوب، وأن الترك تملك بعدهم، ويفتح الساحل كله «3» .
قال: وحكى لي أيضا: أن عبد الله بن إلياس النصراني قال: جئت طرابلس، فقال لي بعض الخيّالة «4» : عندي أسير من بلادكم- وعرض عليّ مشتراه- فوجدته رجلا اسمه:
سهل، من قرية" رعبان «5» " [فحين رآني تشبّث بي وقال: لا تخلى عني اشترني وأنا أعطيك ثمني حال وصولي إلى رعبان] «6» ، فاشتريته بستين دينارا صورية، وجبته «7» إلى قريته، فلم
يكن له ولأولاده تلك الليلة ما يتعشون، فندمت، فقال لي أهل القرية: نحن في أيام البيدر نجمع لك ثمنه، فضقت لذلك، وجئت إلى يونين، فصادفت الشيخ عيسى خارجا من الطهارة، وما كنت رأيته قبل ذلك، فقال لي: أنت الذي اشتريت [سهل] الرعباني؟.
فقلت: نعم. فشرع يحدّثني عنه، [ويسألني عن الصورة وهو متوجه إلى زاويته، وأنا معه، فلما وصل إلى السياج الذي على ظاهر الزاوية، طلب فقيرا من داخل السياج، وقال له:]«1» أبصر في الزاوية ورقة تحت اللباد الذي لي، أحضرها.
قال النصراني: فتوهّمت أنها ورقة كتبها إلى من يعطيني شيئا من وقف الأسرى، أو غيره، فلما ناولني الورقة وجدتها ثقيلة، ففتحتها، فوجدت فيها الستين دينارا التي وزنتها في الأسير بعينها!، فتحيّرت، وأخذتها، وانصرفت «2» . قال أبو طالب: فقلت له: فلم لا أسلمت؟. فقال: ما أراد الله.
قال قطب الدين: وشكوا إليه التفاح وأمر الدودة، وسألوه كتابة حرز، فأعطاهم ورقة فشمّعوها، وعلّقوها على شجرة، فزالت الدودة عن الوادي بأسره، وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها، وحملت حملا مفرطا.
وبقوا على ذلك سنين في حياته، وبعد وفاته، ثم خشينا من ضياع الحرز، فقلنا ننسخه عندنا، فأزلنا الشمع عنه، وفتحناه، فوجدناه قطعة من كتاب جاء إلى الشيخ من حماه، فندمنا على فتحه، ثم أعدناه، فلم يفد. وجاءت الدودة فركبت الأشجار، وأعطبتها، واستمرّ الحال على ذلك «3» .
وقال: حكى لي الحاج علي بن أبي بكر عن بعض أقاربي أنهم قصدوا عمارة حمام في" يونين" وحصّلوا بعض آلاته، فنهاهم الشيخ عيسى، فقالوا: السمع والطاعة، فلما قاموا وأبعدوا، قال أحدهما للآخر: كيف نعمل؟. فقال له: الشيخ عيسى رجل كبير [ما يخلد، نصبر] ، ومتى مات عمّرناه. فبعث الشيخ بطلبهم، فلما جاؤوه قال: كأني بكم وقد قلتم