الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحكي أن رجلا كان يصحبه، فسمعه يقول يوما في دعائه:" اللهم حقق أملي"، فقال:
يا سيدي! أيكون المحقّق أملا؟.
فقال: اعلم أن الأمل العمل.
وقيل: إن الفضيل بن فضالة سأل ربه أن يرفع عنه الأمل، فاستجاب له، فترك الأكل والشرب، فلم تستقم له العبادة، فدعا ربه أن يرد عليه أمله، فأكل وشرب.
وأتاه نعي بعض إخوانه وهو يأكل طعاما، فقال للمخبر له: اقعد فكل، فقد علمت.
قال له: ومن أعلمك؟ وما سبقني إليك أحد!. قال: بلى، قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ
«1» والعجب من يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع؟!!.
ومنهم:
109- محمّد بن عبد الله بن المجد المرشديّ الدّهروطي
«13»
الشيخ أبو عبد الله، رجل من أهل منية مرشد «2» ، من الوجه البحري من ديار مصر.
ظهر فيها ظهور الشمس في السماء، وصدر عنه الناس صدورهم عن الماء، وترامت إليه الفجاج بالوفود، وشدّت إليه الركائب من أقطار الوجود، وغصت طرق البر والبحر إليه، ونصّت ألسنة المشرق والمغرب عليه، وظهرت له كرامات لم تظهر فيها معه لبشر بارقة، ولا غدت بها لابن أدهم سابقة، ولا جاء الجنيد منها إلا جيش ليس له به قبل، ولا وسع ذا النون
المصري البحر ولا البرّ ولا السهل ولا الجبل.
والناس فيه على قسمين: حتى أهل بلده؛ فأناس يقولون: إن أموره كانت رحمانية.
وأناس يقولون: إنها شيطانية!. وسواد الجمهور: على حسن الاعتقاد فيه، وسأحكي من أموره ما فيه غنى للواقف عليه.
قدمت مصر وهذا الرجل قد طارت سمعته، وطرقت الشام، وأسمعت الخاص والعام، ولم تبق أذن إلا وفيها منه صالح، وذاكر له بذكر صالح، وكنت أتمنى لقاءه، وقصدت هذا في قدمتي الاسكندرية، فحالت دون ذلك شواغل خدمة السلطان، وتمادى عليّ ذلك الأمد، فقدم مصر حاجّا، وأتى إلى خدمة السلطان، واجتمع به في الميدان المجاور للاسطبل، وكان فخر الدين ناظر الجيوش الجامع بينهما، وقام السلطان له، وأكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وأقبل عليه يحدّثه لما قرره فخر الدين في صدره، فلم يكن للشيخ حديث يحدّث به السلطان، ولا موعظة يعظه بها، ولا مصلحة من مصالح الدنيا والآخرة يوصيه بها، إلا الإطناب في شكر فخر الدين، وذكر دينه وزهده وصلاحه، وأنه يتعين على السلطان أن يغتبط به، ويعتمد عليه، ويمسكه بيديه، وجعل كل مجلسه في هذا. فنزل من عين السلطان، وقال لألجاي الدواداري: هؤلاء يتقارضون الشهادات!. ثم قال له: لو كان هذا وليا من أولياء الله أوصاني بسائر عباد الله، ولم يقتصر على ذكر الفخر، وكم في الناس من رجل قدمه خير من الفخر!.
وقال لبكتمر الساقي «1» : والله لولا الحياء من الناس كنت ضربه على فمه!.
ثم خرج المرشدي إلى الحج، وخرج السلطان إلى سرياقوس، فخرجنا معه، وأتانا الخبر بأن
الشيخ في البركة، فقمت أنا ووالدي رحمه الله تعالى، وركبنا لنراه، فلحق بنا الداوداري، وقال: متى رحتم إليه ما يعجب السلطان، وذكره بأمور لا أحب ذكرها، ولم يزل حتى عدنا، ثم لم يقدر لي به اجتماع حتى مات في شعبان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، إلا أنه ومنذ قدم مصر وإلى أن مات لم تزل كتبه إليّ متواصلة، وحوائجه لديّ مقضية.
قلت: ولقد يحكى عنه من الغرائب ما لم نسمع مثله عن أحد من أهل زمانه، ولا ممن تقدمهم بزمان سالف.
وكان الناس إذا قصدوه تشهّوا في نفوسهم أنواع المآكل والمشارب، فإذا أتوه أتاهم به. على أنه في منقطع رمل، وقرية صغيرة لا يوجد فيها مثل تلك الأنواع!، والشائع الذائع عند عامة أهل مصر أنه كان يأتيه الجماعة، وكل واحد قد يشتهي شيئا، واقترح ما لا يوجد مثله إلا أن يكون في القاهرة، أو دمشق، فإذا حضروا عنده، وسلموا عليه، غاب عنهم هنيهة، ثم حضر وأحضر لكل واحد منهم ما اقترح، ويقولون: إن أكثر ما كان يحضره للناس في كمه، أو هو حامل له بيده، من غير خدام له، ولا من يستعين بهم، حتى زعموا أنه كان يحضر من أنواع الأطبخة عدة الألوان، وليس عنده من يطبخ له، ولا يعرف له قدرة ولا معرفة، ولا زبدية، ولا موقد نار، مع اشتغاله طول نهاره وليله بالناس، ويزعمون أن هذا المدد ما هو في وقت دون وقت، بل إنه يأتي في اليوم الواحد بعدّة من الألوان لا يعرف من أين أتى بها، ولا من طبخها!.
إلى غير ذلك مما يحكون عنه من هذا ومثله، مما أظن أكثره من باب الخراف في القول.
وحكى لي صاحبنا القاضي شمس الدين القيسراني كاتب الإنشاء، وكان قد توجّه قصدا لزيارته، قال: كنت قد أكلت في الطريق قبل إشرافي على بلده بقليل، فاشتهيت أقسما سكرية «1» مبردة، فحال ما وصلت، وسلمت عليه، غاب عني هنيهة، وأتى معه أقسما
سكرية مبرّدة، مثل الأقسما التي تعمل للسلطان، وقال لي: اشرب هذه فإنك قد جئت من حر الطريق.
وحكى لي الشيخ أحمد بن عمر الأنصاري قال: الشيخ محمد المرشدي يتوجّه في كل سنة إلى" كوم فرح" أظنه قال: في نصف شعبان، ويأتيه من الخلائق ما لا يحصى كثرة، ومعهم دوابّهم، و" كوم فرح" في مكان منقطع، شاسع، ويقيم الناس عند الشيخ ثلاثة أيام، وهو يقوم بهم، وبما يحتاجون إليه من طعام وشراب، وعليق، كل هذا يتولاه بنفسه، ولا يعرف من أين يأتي به؟!.
وحكى لي الأمير الوزير مغلطاي الجمالي «1» - رحمه الله تعالى- قال: توجّهت إلى زيارة الشيخ محمد، فلما قربت منه، اشتهيت قمحية بلبن حليب، بلحم خروف رميس، فلما وصلنا، جاء ومعه زبدية كبيرة فيها قمحية بلبن حليب بلحم خروف رميس، وقال لي:
كل، ثم بقي يغيب ويجيب أشياء أخر، ويضعها قدام مماليكي. وكلما جاب شيئا إلى واحد منهم يعجب منه ويقول: والله أنا كنت قد اشتهيته!. وأحضر أكثر من عشرين لونا ما يطبخ إلا في مطبخ السلطان.
وحكى لي شهاب الدين أحمد بن مليح الاسكندري بالاسكندرية، قال: نويت زيارة الشيخ محمد في نفسي، وقلت: لعلّي أصادف عنده هيطلية بسمن وعسل آكل منها؟.
فجاء كتاب وكيل الخاص باستعمال حوائج السلطان أعاقني عن ما عزمت عليه، فلم يمض غير يومين أو ثلاثة، وإذا أنا برجل قد أتاني من عند الشيخ، وقال: الشيخ يسلم عليك، وقد بعث لك هذا السمن والعسل لتعمل لك هيطلية، وتأكلها بهما، ولو كانت تحمل إليك بعث لك بها.
قال ابن مليح: والله الذي لا إله إلا هو، لم أكن قد أطلعت أحدا على ما نويت ولا على ما كنت قد اشتهيت. وأخباره في مثل هذا كثيرة.
وكان- على ما ذكر لي- رجلا مبدنا. ربعة من الرجال، حسن الشكل، منوّر الصورة، جميل الهيئة، حسن الخلائق، يحفظ القرآن الكريم، و" التنبيه" في مذهب الشافعي، وكان فقيه النفس، مختصرا لكثير من المسائل، يتلو في أكثر الأوقات، ويفتي من استفتاه من غير أن يكتب خطه بشيء، وكان لا يرد نفسه عن الشفاعات إلى أرباب الدولة، وحاشية السلطان، وشفاعاته مقبولة، والوسائل به لا ترد.
وقد زعم قوم أن هذه الكرامات إنما كانت بصناعة مقررة بينه وبين قاضي فوّه، فإنهما كانا روحين في جسد واحد، وكان قد تحصّن بالشيخ، فلا يقدر قاضي القضاة ولا أحد غيره على عزله، وطال ذيله، وأكثر من تسجيل البلاد والتجارة، والولاة ترعاه إما للاعتقاد في الشيخ، أو لرجاء العناية من الشيخ بهم عند الدولة، فتمت أمواله، وصلحت حاله، واتسعت دائرة سعادته، فلم يبق له دأب إلا تلقي من يصل من ذوي الأقدار قاصدا زيارة الشيخ، لأن" فوّه" طريق" منية المرشد"، فإذا وصل الزائر أنزله وأضافه، وشرع في محادثته، ومحادثة من معه، حتى يقف ما في خواطرهم اقتراحه على الشيخ، ثم يبعث به إلى الشيخ، على دواب مركزه في الطريق بينهما، وعدة من الأوصاف بما لعله لا يكون عنده، ثم يعطيه حلية كل رجل من المذكورين واسمه!.
قالوا: فكان بهذه الصنعة تم له ما أراد، فيشهد له من أتاه بما كان في نفسه، ويقول غيره بالتقليد كعادة العوام في ذلك، وعندي في كل أمره نظر، ولو رأيته لكنت وقفت على بعض الخبر.
وبالجملة فكان ذا فضل وبرّ، ومعروف، ومذهب غير مألوف، رحمه الله تعالى.