الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال:" محبة توجب سفك الدماء، ومحبة توجب حقن الدماء".
ثم قال:" المحبة: مجانبة السلوّ على كل حال".
وأنشد:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة
…
فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها
…
أمانيّ لم تصدق، كلمحة بارق «1»
ومنهم:
41- أبو الحسن عليّ بن إبراهيم الحصريّ
«13»
وحيد أيّ وحيد، وفريد في شريعة وتوحيد، لا يقرن إلا بالجنيد، ولا يقرب إلا من داود ذي الأيد «2» ، وكان مالكا للظنون، وسالكا حذاء المنون، حتى سما به كوكبه فتعالى، وزاحم منكبه النجم ثم احتذاه نعالا، والجدّ دأبه والجد يحفظ اجتذابه، والعمل ديدنه والعلم لا يفنى منه معدنه، حتى أجاب للمقدار، ونقل من دار إلى دار، ثم وجد ما قدّم وجد، وودّ لو كان تقدم.
وكان شيخ العراق ولسانها في وقته، لم ير في زمانه من المشايخ أتمّ حالا منه، ولا أحسن لسانا ولا أعلى كلاما. متوحّدا في طريقته، ظريفا في شمائله وحاله، له لسان في التوحيد يختص به، ومقام في التجريد والتفريد لم يشاركه فيه أحد بعده «3» .
وهو أستاذ العراقيين، وبه تأدّب من تأدّب منهم.
صحب [أبا بكر] الشبلي، وإليه كان ينتمي، وصحب غيره من المشايخ أيضا «1» . وهو بصري الأصل.
سكن بغداد، ومات بها يوم الجمعة، في ذي الحجة، سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة «2» .
وقال:" أصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحديث، وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما علم وجهل".
وقال أبو الحسين الزنجاني: كثيرا ما كنت أسمع الحصري ببغداد يقول:" عرّضوا ولا تصرّحوا، فإن التعريض أستر".
وينشد:
وأعرض إذا ما جئت- عنا بحيلة
…
وعرّض ببعض إن ذلك أستر
فما زلت في إعمال طرفك نحونا
…
ولحظك حتى كاد ما بك يظهر
ومنهم:
42-
أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ «3» الضّبّيّ «13»
قمر جلا السدف «1» ، وجلّ أن يقاس إلا بالسلف، لم يجلس في محفل إلا خلته كوكبا في المجامع يأتلق، ونشر صبا بالمسامع يعتلق، وكان حيث حضر تحل له الحبى «2» ، ويحل أعالي الربى، إلى أن نزل باليباب، ووسد بين أترابه، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ
«3» .
أصله من إسفكشاذ، وأقام بشيراز. وكان شيخ المشايخ، وأوحدهم في وقته. عالما بعلوم الظاهر، وعلوم الحقائق، حسن الأحوال، في المقالات والأفعال، جميل الأخلاق والأعمال «4» .
مات سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة «5» .
ومن كلامه:
" لما خلق الله الملائكة والجنّ والإنس، خلق العصمة والكفاية والحيلة: فقال للملائكة:
اختاروا. فاختاروا العصمة.
ثم قال للجن: اختاروا. فاختاروا العصمة. فقال: قد سبقتم. فاختاروا الكفاية.
ثم قال للإنس: اختاروا. فقالوا: نختار العصمة. فقال: قد سبقتم. فقالوا: نختار الكفاية. فقال: قد سبقتم. فأخذوا الحيلة. فبنو آدم يحتالون بجهدهم." «6»
وقال:" الخوف اضطراب القلوب بما علمت من سطوة المعبود."«7»
وقال:" الرياضة: كسر النفوس بالخدمة، ومنعها عن الفترة."«1»
وقال:" التقوى: مجانبة ما يبعدك عن الله تعالى". «2»
وقال:" ليس شيء أضرّ بالمريد من مسامحته النفس في ركوب الرخص، وقبول التأويلات."«3»
وقال:" الدّنف: من احترق في الأشجان، ومنع من بث الشكوى."«4»
وقال:" الزهد: سلوّ القلب عن الأسباب، ونفض الأيدي عن الأملاك". وحقيقة الزهد:
التبرم بالدنيا، ووجود الراحة في الخروج منها." «5»
و [قال] :" القناعة: الاكتفاء بالبلغة. وحقيقة القناعة: ترك التشوق إلى المفقود، والاستغناء عن الموجود"«6» .
وقال:" الشوق: ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء للقرب".
وقال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يقول:" من عرف طريقا إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذّبه الله تعالى عذابا لم يعذّب به أحدا من العالمين." «7»
وقال:" المشاهدة: اطّلاع القلوب بصفاء اليقين إلى ما أخبر الله تعالى عنه من الغيوب"«8»
وقال:" الرجاء: ارتياح القلوب إلى كرم الموجود."«9»
ومنهم:
43-
ابن سمعون «1» : محمّد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس «13»
أبو الحسين البغدادي الواعظ.
واحد ردّ به العدو، ورجي به الهدوّ، وردّت به النوائب شبحا في حلوقها، وسحبا لما تدعيه من باطل حقوقها، وكانت محرجة به صدور برحائها، محرقة بلهبه صدور روائها، رامها فقصف النّصال على النّصال، وقصد الرماح ودعم بها الآصال، حتى طال بها الأمن ودام، وطب فحل الليل عن الشفق الفدام، بتوجه يتقهقر له الجيش المطل، ويقهر أسد الخميس المدل، ويظهر أن الله لا يحارب له ولي، ولا يغالب له قدر له سيل تحدّر من علي.
وقنع مدة بالعيش الزهيد، وعمل ليوم يأتي كل نفس معها سائق وشهيد، وكان أمة قانتا، ونعمة لم تدع فائتا، فأجزلت له المواهب، وسهلت له العطايا من أصعب المذاهب، فرفع على الرءوس مقاما، وسمع منه ما داوى للنفوس داء عقاما، ثم كان إلى أن مات من الحلال يكتسب، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
«2»
قال السلمي: هو من مشايخ بغداد، له لسان عال في هذه العلوم، لا ينتمي إلى أستاذ، وهو لسان الوقت، والمرجوع إليه في آداب المعاملات، ويرجع إلى فنون من العلم.»
وقال أبو محمد السني- صاحب ابن سمعون-:" كان ابن سمعون في أول أمره ينسخ بالأجرة، وينفق على نفسه وأمه، فقال لها يوما: أحبّ أن أحجّ. قالت: وكيف يمكنك؟.
فغلب عليها النوم، فنامت وانتبهت بعد ساعة، وقالت: يا ولدي! حجّ. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول:" دعيه يحج، فإن الخير له في حجه". ففرح وباع دفاتره، ودفع إليها من ثمنها، وخرج مع الوفد، فأخذت العرب الوفد، قال: فبقيت عريانا، ووجدت مع رجل عباءة، فقلت: هبها لي أشتريها، فأعطانيها، قال: فجعلت إذا غلبني الجوع، ووجدت قوما من الحاج يأكلون، وقفت أنظر إليهم، فيدفعون إلى كسرة فأقتنع بها، وأحرمت في العباءة، ورجعت إلى بغداد، وكان الخليفة قد حرّم جارية وأراد إخراجها من الدار.
قال أبو محمد السني: فقال الخليفة: اطلبوا رجلا مستورا يصلح [أن تزوج هذه الجارية به]«2» ؛ فقال بعضهم: قد جاء ابن سمعون من الحج. فاستصوب الخليفة قوله، فزوّجه بها.
فكان ابن سمعون يجلس على الكرسي، فيعظ ويقول:" خرجت حاجّا، ويشرح حاله، وها أنا اليوم عليّ من الثياب ما ترون"«3» .
قال البرقاني:" قلت له يوما: تدعو الناس إلى الزهد، وتلبس أحسن الثياب!، وتأكل أطيب الطعام، فكيف هذا؟!.
فقال:" كلّ ما يصلحك لله فافعله، إذا صلح حالك مع الله."«4»
" ولما دخل عضد الدولة بغداد، وقد هلك أهلها، قتلا وخوفا وجوعا، للفتن التي اتصلت
فيها بين الشيعة والسنة، فقال: آفة هؤلاء: القصّاص. فنادى: لا يقصّ أحد في الجامع، ولا الطرق، ولا يتوسّل بأحد من الصحابة. ومن أحب التوسل قرأ القرآن، فمن خالف فقد أباح دمه.
فوقع في الخبر: أن ابن سمعون جلس على كرسيه بجامع المنصور.
قال أبو الثناء العضدي: فأمرني أن أطلبه؛ فأحضر. فدخل عليّ رجل له هيبة وعليه نور. فلم أملك أن قمت إليه، وأجلسته إلى جنبي، فجلس غير مكترث، فقلت: إن هذا الملك جبار عظيم، وما أوثر لك مخالفة أمره، وإني موصلك إليه، فقبّل الأرض وتلطّف له، واستعن بالله عليه.
فقال: الخلق والأمر لله. فمضيت به إلى حجرة، وقد جلس فيها وحده، فأوقفته، ثم دخلت لأستأذن، فإذا هو إلى جانبي قد حوّل وجهه إلى نحو دار فخر الدولة، ثم استفتح وقرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ
. «1»
قال: ثم حوّل وجهه، وقرأ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
. «2»
[ثم أخذ في وعظه]«3» ؛ فأتى بالعجب؛ فدمعت «4» عين الملك، وما رأيت ذلك منه قط، وترك كمّه على وجهه.
فلما خرج أبو الحسين- رحمه الله تعالى- قال الملك: اذهب إليه بثلاثة آلاف درهم، وعشرة أثواب من الخزانة، فإن امتنع فقل له: فرّقها في أصحابك، وإن قبلها، فجئني برأسه، ففعلت، فقال: إن ثيابي هذه من نحو أربعين سنة، ألبسها يوم خروجي إلى الناس، وأطويها
عند رجوعي، وفيها متعة وبقيّة ما بقيت، ونفقتي من أجرة دار خلّفها أبي، فما أصنع بهذا؟.
فقلت: فرّقها على أصحابك.
فقال: ما في أصحابي فقير.
فعدت فأخبرته. فقال: الحمد لله الذي سلّمه منا، وسلّمنا منه «1» .
وسئل ابن سمعون عن التصوف؟.
فقال:" أما الاسم: فترك الدنيا وأهلها، وأما حقيقة التصوف: فنسيان الدنيا، ونسيان أهلها". «2»
وقال ابن سمعون في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
«3» ، قال:" مواعيد الأحبة- وإن اختلفت- فإنها تؤنس". كنا صبيانا ندور على الشطّ ونقول:
ما طليني وسوّفي
…
وعديني ولا تفي
واتركيني مولّها
…
أو تجودي وتعطفي «4»
وذكر ابن سمعون أنه أتى بيت المقدس ومعه تمر، فطالبته نفسه برطب، فلامها، فعمد إلى التمر وقت إفطاره فوجده رطبا، فلم يأكل منه وتركه، فلما كان ثاني ليلة وجده تمرا «5»
وقال أبو الفتح القوّاس: لحقتني ضائقة، فأخذت قوسا وخفّين، وعزمت على بيعهما، فقلت: أحضر مجلس ابن سمعون، ثم أبيعهما، فحضرت، فلما فرغ ناداني: يا أبا الفتح!
لا تبع الخفّين والقوس، فإن الله سيأتيك برزق". أو كما قال «1» .
وقال أبو طاهر العلاف: حضرت أبا الحسين يوما وهو يعظ، وأبو الفتح القوّاس إلى جنب الكرسي، فنعس، فأمسك أبو الحسين عن الكلام ساعة، ثم استيقظ أبو الفتح، ورفع رأسه، فقال له أبو الحسين:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومك؟. قال: نعم. فقال:
لذلك أمسكت خوفا من أن تنزعج." «2»
وحكى مولى الطائع لله: أن الطائع أمره فأحضر ابن سمعون، فرأيت الطائع غضبانا، وكان ذا حدّة، فأحضرت ابن سمعون، فأذن له الطائع في الدخول، فدخل وسلّم بالخلافة، ثم أخذ في وعظه، فقال:
" روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه"، ثم روى عن أمير المؤمنين وترضّى عنه، ووعظ حتى بكى الطائع، وسمع شهيقه، وابتلّ منديل من دموعه، فلما انصرف، سألت عن سبب طلبه؟.
فقال: رفع إليّ أنه ينتقص عليا رضي الله عنه، فأردت أقابله، فلما حضر افتتح بذكر علي، والصلاة عليه، وأعاد وأبدى في ذكره، فعلمت أنه وفّق، ولعلّه كوشف بذلك" «3» .
توفي رضي الله عنه سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، في ذي القعدة «4» .
وولد سنة ثلاثمائة. وسمعون: هو جده إسماعيل.
قال أبو بكر الخطيب: كان بعض شيوخنا إذا حدّثنا عنه قال:" حدّثنا الشيخ الجليل المنطّق بالحكمة."«1»
سمع أبا بكر بن أبي داود «2» ، ومحمد بن مخلد العطار، وأبا جعفر بن البختري «3» .
وبدمشق: أحمد بن سليمان بن زبّان، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة، وجماعة، وأملى عنهم.
وروى عنه: أبو عبد الرحمن السلمي، وعلي بن طلحة المقرئ، والحسن بن محمد الخلال، وأبو طالب العشاري، [وأبو الحسين بن الآبنوسي] ، وخديجة بنت محمد الشاهجانيّة الواعظة، [وأبو بكر أحمد بن محمد بن حمّدوه الحنبلي] ، وغيرهم «4» .
وكان أوحد دهره، وفرد عصره في الكلام، على علم الخواطر والإشارات، ولسان الوعظ، دوّن الناس حكمه، وجمعوا كلامه. رحمه الله تعالى.