الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفسي إشكال في مسألة، وكان لي صاحب من الفقهاء الحنفية أتردد إليه زمن الاشتغال، فنزلت إليه، وليس لي مهم إلا أن أسأله عن تلك المسألة، ليحل لي الإشكال فيها، فأتيته، فلم أجده، فأتيت المدرسة التي بها الشيخ عبد الله المنوفي لأراه. فلما دخلت عليه، وسلمت عليه، وجلست، قال لي: كأنك مشتغل بشيء من الفقه؟. فقلت: نعم. فقال:
ما قولك في كذا وكذا؟ - لتلك المسألة بعينها! -؛ فقلت: منكم يستفاد.
فأخذ يتكلم في تلك المسألة وما عليها من الإيرادات، وذكر الإشكال الذي وقع في نفسي، ثم شرع يجيب عن تلك الإيرادات، حتى جلى ذلك الإشكال، وحل المسألة.
فسألته عن شيء آخر؟. فقال: لا، قم مع السلامة، والقصد قد حصل.
وهذه كرامة ظاهرة لا تنكر. رحمه الله تعالى.
ومنهم:
111- أبو عبد الله محمّد بن اللّبّان
«13»
شمس الدين الشاذلي، طراز مصر المذهب، وفرد أهلها في علم الحقيقة والمذهب، والفائز المعلى قدحه، والسيد المحلى بذائب الذهب مدحه، طاب غرسه، وأشرقت ملء المشارق والمغارب شمسه، وطال لواؤه، وحسن دواؤه، وكثرت شيعته تتوالى منه وليا تروى أنواؤه، وتجود الأرض سماؤه، وتعود بالفرض والنوافل نعماؤه.
صحب الشيخ ياقوت الحبشي «1» ، وغيره من مشايخ الاسكندرية، ومصر، والشام، وأخذ
عنهم من علوم الطريقة والحقيقة ما تقدم، تمهيد العلوم الشرعية، لسلوكه فيه، حتى برع وبزّ أهل زمانه، وساد على أبناء دهره، وأطلق قلمه بالإفتاء، واشتغل عليه أنواع الطلبة، وأخذت عنه طوائف المريدين، وتكلم على رؤوس الأشهاد، وحضر مجلسه الخاص والعام، ولم يزل يشار إليه بالإجلال، ويذكر بالتعظيم.
وكنت أسمع به ولا يقيض لي به لقاء، ثم أصيب بما لم يخل منه مثله، فخلى في بعض مجالسه وقد شرع في كلام ما كمّله، وأخذ في قول ما أتّمه، فقام ابن الكاتب المالكي وقطع عليه الكلام، وأخذ في الإنكار عليه، وقام معه أناس قلائل، وهمّ بهم السواد الأعظم حتى كادوا يثبون بهم، ثم حجز بين الفريقين، ورفع ابن الكاتب القضية إلى الحكام، وكان كلاما يقتضي قبل تمامه ما أوقد حميّة بعض الحكام عليه، فتحدّث مع البقية، ثم حدّثوا السلطان فيه، فاستتشاط غضبا وأمرهم فيه بأمر كاد لا يستدرك، فقيض له من بلّغ السلطان القضية وأوصل إليه الخبر على حقيقته، وعرّفه بمكانة الشيخ، وما هو عليه من العلم، والدين، فسخّره الله له، وقلب تلهّب غيظه عليه بردا وسلاما له، وبعث إلى الحكام بالتمهل في أمره، ثم طلبه السلطان، وادّعى عليه لديه، وسأله عما قال؟. فاعترف، فحكم بصحة إسلامه، وقبول دولته وإبقائه على ماله وزوجته، وعدالته، ومناصبه، بعد استيفاء الشرائط الشرعية، وفعل كما يجب شرعا.
ثم عقد له مجلس بالمدرسة الصالحية، عند قاضي القضاة جلال الدين القزويني «1» ، فطلبه؛ فنزل من القلعة إليه، والناس حوله، وقد ملأ سواد الناس ما بين القلعة والمدرسة، فلما حضر مجلس الحكم العزيز، ادّعى عليه، فأجاب بما حكم به السلطان، وأوصل حكم السلطان بالقاضي القزويني، وحكم حكما آخر مستقلا للشيخ بمثل ذلك، وامتنع من
الكلام في المجالس العامة، ثم تكلم، وهو رجل قد جمع الله عليه من القلوب، وجمع له من أشتات ما لا هو في ظنّ ظانّ، هذا إلى حسن الشكل، وتنوير الوجه، والصورة، وجمال الذات والهيئة، وجودة الخط، وحسن اللفظ، وبراعة اللسان، وكرم النفس، وجميل السجايا، فآها لدهر فرّق بيننا وبينه، وزمان أبعد المدى عنه.
وله نظر ثاقب في الأدب، ونظم بديع [فمن شعره ما أورده في كتابه المتشابه في الربانيات قوله:
تشاغل عنا بوسواسه
…
وكان قديما لنا يطلب
محبّ تناسى عهود الهوى
…
وأصبح في غيرنا يرغب
ونحن نراه ونملي له
…
ويحسبنا أننا غيّب
ونحن إلى العبد من نفسه
…
ووسواس شيطانه أقرب «1»
مصادر التحقيق وفهرس الأعلام