الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما من بمصر، فقوم:
ومنهم:
102- أبو الفيض ذو النّون المصريّ
«13»
واسمه ثوبان بن إبراهيم، وقيل: أبو الفيض بن إبراهيم الأخميمي «1»
قدوة للأولياء، وأسوة للعلماء ورثة الأنبياء، اتقى الله حقّ تقاته، وقصر على الطاعة كل أوقاته، وكان من الناس جانبا، ولليأس إلى آماله جالبا، عرف الأيام حق معرفتها، وعرّف ذوي الأفهام منح صفتها، فخلاها من يديه، وأولاها الإعراض لديه، تدارك فساد القلوب بصلاحه، وجلا سواد الدياجي بصباحه، وكان في قوم ما دانوا لله بكيا، وكانوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا وبكيّا. وطلبه المتوكل لأمر نقل إليه وكان غائبا، وذا النون إذ ذهب مغاضبا، فلما حلّ في حضرته جلّ في عينه، وحلّ عن الاحتجاز عليه عقد بينه، فآب مكرّما، وغاب ولم ينل منه أحد محرما.
وكان أوحد وقته علما وحالا وورعا وأدبا، سعوا به إلى المتوكل على الله فاستحضره من
مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكّل وردّه مكرّما؛ وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحي هلا «1» بذي النون.»
وكان رقيقا نحيفا، تعلوه حمرة، ليس بأبيض اللحية.
ومن كلامه:" إياك أن تكون بالمعرفة مدّعيا، أو تكون بالزهد محترفا، أو تكون بالعبادة متعلّقا". «3»
وقال ذو النون:" قال الله تعالى في بعض كتبه: من كان لي مطيعا كنت له وليا، فليثق بي، وليحكم علي، فوعزتي! لو سألني زوال الدنيا لأزلتها له"«4» .
وقال ذو النون:" الصوفي إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق."«5»
وقال:" الأنس بالله من صفاء القلب مع الله تعالى، والتفرد بالله، الانقطاع من كل شيء سوى الله."«6»
وقال:" من أراد التواضع فليوجّه نفسه إلى عظمة الله، فإنها تذوب وتصفو، ومن نظر إلى سلطان الله، ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته «7» وقال سعيد بن عثمان: أنشدني ذو النون:
أموت وما ماتت إليك صبابتي
…
ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
مناي المنى كل المنى أنت لي مني
…
وأنت الغنى، كلّ الغنى، عند إقتاري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي
…
وموضع آمالي ومكنون إضماري
تحمّل قلبي فيك ما لا أبثه
…
وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري
وبين ضلوعي منك مالك قد بدا
…
ولم يبد باديه لأهل ولا جاري
وبي منك في الأحشاء داء مخامر
…
فقد هدّ مني الركن وأنبت أسراري
ألست دليل الركب إن هم تحيروا
…
ومنقذ من أشفى على جرف هار؟
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن
…
من النور في أيديهم عشر معشار
وعلمتهم علما فباتوا بنوره
…
وبان لهم منه معالم أسرار
مهامه للغيب حتى كأنها
…
لما غاب عنها منه حاضرة الدار
وأبصارهم محجوبة وقلوبهم
…
تراك بأوهام حديدات أبصار
فنلني بعفو منك أحيا بقربه
…
أغثني بيسر منك يطر إعساري «1»
وقال ذو النون:" [الصدق] «2» سيف الله تعالى في أرضه ما وضع على شيء إلا قطعه."«3»
وقال:" من تزيّن بعمله كانت حسناته سيئات"«4» وقال:" كان لي صديق فقير، فمات، فرأيته في المنام؛ فقلت له: ما فعل الله بك؟. قال: قال لي: قد غفرت لك بترددك إلى هؤلاء السفل أبناء الدنيا في رغيف قبل أن يعطوك."«5»
وقال سالم المغربي: حضرت مجلس ذي النون، فقلت: يا أبا الفيض! ما كان سبب توبتك؟. فقال: عجب لا تطيقه، فقلت: بمعبودك إلا أخبرتني، فقال ذو النون: أردت الخروج من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق ببعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة «6» عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض، فخرج منها سكرجتان «7» ؛ إحداهما ذهب، والأخرى فضة، وفي إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء،
فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا.
فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني الله عز وجل «1» وقال:" توبة العوام تكون من الذنوب «2» ، وتوبة الخواص تكون من الغفلة. «3» "
وقال محمد بن أحمد السميساطي: سمعت ذا النون المصري يقول: بينا أنا أسير في جبال أنطاكية، إذا أنا بجارية كأنها والهة مجنونة، عليها جبة صوف، فسلّمت عليها، فردّت عليّ السلام، ثم قالت: ألست ذا النون المصري؟.
قلت: عافاك الله، كيف عرفتيني؟.
قالت: فتق الحبيب بيني وبين قلبك فعرفتك باتصال حب الحبيب. ثم قال: أسألك مسألة. قلت: سليني. قالت: أي شيء هو السخاء؟. قلت: البذل والطاعة.
قالت: هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟.
قلت: المسارعة إلى طاعة المولى. قالت: فإذا سارعت إلى طاعة المولى، يجب به الجزاء؟. قلت: نعم!، للواحد عشرة. فقالت: مر يا بطّال! هذا في الدين قبيح، ولكن المسارعة إلى طاعة المولى أن يطّلع على قلبك، وأنت لا تريد منه شيئا بشيء. ويحك يا ذا النون!، إني أريد أقسم عليه في طلب شهوة منذ عشرين سنة فأستحي منه أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجرة، ولكن اعمل تعظيما لهيبته، وعزّا لجلاله.
ثم ذهبت وتركتني.
وقال: أتتني امرأة فقالت لي: إن ابني أخذه التمساح الساعة!، فرأيت حرقتها، فأتيت
النيل، وقلت: اللهم أظهر التمساح، فخرج إليّ، فشققت جوفه، وأخرجت ابنها صحيحا، فقالت: كنت إذا رأيتك سخرت منك، فاجعلني في حل، فأنا تائبة إلى الله تعالى «1» وقال أحمد بن مقاتل البغدادي: لما دخل ذو النون بغداد، دخل عليه صوفية بغداد، ومعهم قوّال، فاستأذنوه أن يقول شيئا بين يديه؛ فابتدأ يقول:
صغير هواك عذّبني
…
فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من روحي
…
هوى قد كان مشتركا
أما ترثي لمكتئب
…
إذا ضحك الخليّ بكا؟
قال: فقام ذو النون وتواجد، وطال تواجده، وسقط على وجهه، والدم يقطر من جبينه، ولا يسقط على الأرض.
ثم قام رجل من القوم يتواجد، فقال له ذو النون: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
«2» ، فجلس في الحال.
وحكي أن جارا لذي النون قام ليلة؛ فسمع ذا النون يقول- وهو باك-" كم من ليلة بارزتك يا سيدي! بما أستوجب به الحرمان منك؟. وأشرفت بقبيح أفعالي منك على الخذلان، فسترت عيوبي عن الإخوان، وتركتني مستورا بين الجيران، لم تكافئني بجريرتي، ولم تهتكني بسوء سريرتي، فلك الحمد على صيانة جوارحي، وأنا أقول كما قال النبي الصالح: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
«3» .
إلهي! عرف المطيعون عظمتك فخضعوا، وألف العاصون رحمتك فطمعوا، فمن أيهما كنت، اغفر لي بعظمتك التي تصاغر لديها كل شيء، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، اغفر لي وارحمني، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
وقال أبو عبد الله بن الجلاء: كنت مجاورا بمكة مع ذي النون؛ فجعنا أياما كثيرة، لم يفتح لنا بشيء، فلما كان ذات يوم، قام ذو النون قبل صلاة الظهر، ليصعد إلى الجبل يتوضأ
للصلاة، وأنا خلفه، فرأيت شيئا من قشور الموز مطروحا في الوادي، وهو طري. فقلت في نفسي: آخذ منه كفا أو كفّين، أتركه في كمي لا يراني الشيخ. فلما صرنا في الجبل، وانقطعنا عن الناس، التفت إلي وقال: اطرح ما في كمك يا شره!، فطرحته، وأنا خجل، وتوضّأنا للصلاة، ورجعنا إلى المسجد، وصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما كان بعد ساعة إذا أنا بإنسان قد جاء ومعه طعام عليه مكبّة، فوقف ينظر إلى ذي النون، فقال له:
مرّ. فدعه قدّام ذاك، وأومأ بيده إلي، فتركه الرجل بين يدي، فانتظرت الشيخ ليأكل، فلم يقم من مكانه، ونظر إلي وقال لي: كل، فقلت: وحدي؟. فقال: نعم، أنت طلبت، نحن ما طلبنا، يأكل الطعام من طلبه، وأقبلت آكل وأنا خجل مستح مما جرى مني.
توفي ذو النون المصري سنة خمس وأربعين ومائتين. وقيل: سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وقال أبو بكر محمد بن ريان الحضرمي: لما مات ذو النون بالجيزة، حمل في قارب؛ مخافة أن تنقطع الجسور من كثرة الناس مع جنازته، وكنت قائما مع الناس على كوم أنظر، فلما رجع من القارب، ووضع على الجنازة، وحمله الناس، رأيت طيورا خضرا قد اكتنفت الجنازة، ترفرف عليه، حتى عطف به إلى عند حمام الغار، وغاب عني.
حكى في" مناقب الأبرار" عن يوسف بن الحسين «1» قال: بلغني أن ذا النون يعلم اسم الله الأعظم، فخرجت من مكة قاصدا إليه، حتى وافيته في حدة، فأول ما نظرني رآني طويل اللحية، وفي يدي ركوة طويلة، متزرا بمئزر، وعلى كتفي مئزر، وفي رجلي [
…
] «2» ، فاستبشع منظري، فلما سلمت عليه كأنه ازدراني، وما رأيت منه تلك البشاشة، فقلت في نفسي: ترى مع من وقعت؟ وجلست عنده، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة، جاءه رجل من المتكلمين فناظره في شيء من الكلام، واستظهر على ذي النون وغلبه، فاغتممت لذلك، وتقدّمت، وجلست بين أيديهما، واستملت المتكلم إلي وناظرته حتى قطعته، ثم دققت حتى لم يفهم كلامي، قال: فعجب ذو النون من كلامي، وكان