الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
47- عديّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن ابن مروان الهكّاريّ
«13»
من ولد معاوية بن أبي سفيان «1» .
ولي لله عرف أيامه من أمسها، وقدم له يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، قصر جناح النسر عن تدويمه، وقصر طماح الطرف دون تحويمه، وخالف الأماني في مرادها، وخلف وراءه وكبد الآمال مرادها، فما ألهاه من الدنيا غرورها، ولا ازدهاه حزنها ولا سرورها، وشكته الأيام إذ كان من أدوائها، وجفته إذ لم يكن من أودائها، ثم جاءت إليه بالجميل منقادة، وانقادت له بالرعيل ومن قاده، وله في آل حرب نسب سالمته القبائل، وحاكمته فلم يقض لها معه بطائل، هذا إلى كرم بدين، وفضل كان يراه على ذمته كالدين، وكان فيه أمل، وله عمل ما عليه مزيد إلا أن طائفته غلوا فيه فغووا، ونووا فيه نية فغووا، وغلب عليهم الهوى فأضلهم، ودلاهم المغرور ودلّهم، ولكل معزّ مذلّ، ومن يهد الله فما له من مضل.
وسار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير، وهم" الطائفة العدويّة"، وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحدّ، حتى جعلوه قبلتهم التي يصلّون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعوّلون عليها.
وكان قد صحب جماعة كثيرة من أعيان المشايخ، والصلحاء المشاهير، مثل عقيل المنبجي، وحماد الدباس، وأبي النجيب عبد القاهر السهروردي، وعبد القادر الجيلي، وأبي الوفاء الحلواني.
ثم انقطع إلى جبل الهكّاريّة، من أعمال الموصل، وبنى له هناك زاوية، ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله.
قلت: وقد هاجر زين الدين ابن أخي الشيخ إلى البلاد، فأكرمت ملوكنا مقدمه، وأمر إمرة كثيرة، وانقطع في قرية تعرف ببيت فار «1» . وكان بها، وكان منغمسا في النعم والملاذ، يعيش عيش الملوك من اقتناء الغلمان والجواري والملابس، وتمد لديه أسمطة ملوكية.
وحكي أن بعض نساء القياصرة كانت مغراة بالشيخ زين الدين، مطنبة في تعظيمه، متغالية في الاعتقاد لصلاحه، وأنفقت عليه أموالا جليلة، وكانت غير مصغية إلى عذول يعذلها في حبه، وخواصّها يلومونها على تبذير أموالها، ويذكرون لها ما كان يتعاطاه من الأمور القبيحة، ولا يزداد إلا غيا وتماديا، فتوصلوا إلى أن حملوها في قفة، وأشرفوا بها عليه وهو عاكف على المنكرات، فما زادها ذلك إلا ضلالا، وقالت: أنتم تنكرون هذا عليه، إنما الشيخ يتدلل على ربه!، وضاعفت له الإنفاق، ولم تمسك خشية الإملاق.
وحكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب رحمه الله تعالى، قال:
بعثت مع الأمير الكبير علم الدين سنجر الدواداري «2» ، ليحلفه في أول الدولة الأشرفية؛
فأتيناه وهو في قريته، مثل الملك في قلعته، للتجمل الظاهر، والحشمة الزائدة، والفرش الأطلس، وآنية الذهب والفضة، والعصار الصيني، وأشياء تفوت العد، إلى غير ذلك من الأشربة المختلفة الألوان، والأطعمة المنوعة فلما دخلنا عليه لم يحتفل بنا، وأتاه الأمير علم الدين، فقبل يده، وهو جالس لم يقم، فبقي الدواداري قائما قدامه يحدثه، وزين الدين يسأله، لا هو يجلس، ولا زين الدين يقول له اجلس، ثم أمره بالجلوس فجلس على ركبتيه متأدبا بين يديه، ثم أنعم علينا بجملة طائلة تقارب خمسة عشر ألف درهم.
قلت: وقد كان يحلف منهم الشيخ عز الدين أميرا، وأمّر، وبقي مدة أميرا بدمشق، ثم بصفد، ثم بدمشق، ثم ترك الإمارة، وآثر الانقطاع، وأقام بالمزة، وكانت الأكراد تأتيه من كل قطر بصفايا أموالها، تقربا إليه، ومنهم على ما حكى من كان يجلس بين يديه.
ثم إنه أراد الخروج على السلطان وتبعه طوائف الأكراد من كل بلد، وباعوا أموالهم بالهوان، واشتروا الخيل والسلاح، وآلات الحرب، ووعد رجالا ممن تبعه بالنيابات الكبار، ونزل بأرض اللجون، وأتى السلطان خبرهم، وأنهم على هذا لم يؤذوا أحدا في نفس ولا مال، وإنما يبيعون أموالهم بالرخص، ويشترون الخيل والسلاح بالغالي، فأمر تنكز نائب الشام بكشف أخبارهم، وقصّ آثارهم، وأمسك السلطان من كان بالزاوية العدوية بالقرافة.
واختلفت الأخبار؛ فقيل: إنهم يريدون سلطنة مصر، وقيل: بل كانوا يريدون ملك اليمن، وقلق السلطان لأمرهم، وأهمه، إلى أن أمسك تنكز نائب الشام عز الدين المذكور، وأودع الاعتقال، حتى مات، وفرق الأكراد، ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة.
ومولد الشيخ عدي بقرية يقال لها" بيت فار" من أعمال بعلبك، والبيت الذي ولد فيه يزار إلى الآن «1» .
وتوفي سنة سبع، وقيل: سنة خمس وخمسين وخمسمائة «2» ، في بلده بالهكارية،
ودفن بزاويته، وقبره عندهم من المزارات المعدودة، والمشاهد المقصودة، وحفدته إلى الآن يقيمون إمارة، والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد، وتعظيم الحرمة.
وكان مظفر الدين صاحب إربل يقول: رأيت الشيخ عدي بن مسافر، وأنا صغير بالموصل، وهو شيخ ربع، أسمر اللون، وكان يحكي عنه صلاحا كثيرا. وعاش تسعين سنة رحمه الله تعالى «1» .
ومنهم:
48-
أحمد المعروف بابن الرفاعي «2» أبو العباس بن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن يحيى بن حازم بن عليّ بن رفاعة «13»
عرف حقه الأنام، وألفت فضله الأيام، أيّ رجل، وأيّ بطل، مثله في الخواطر لم يجل، طالما اهتز في يديه كلّ أخضر، وأهزله رداء ألقى المهابة في قلوب الحضّر، وكان لو من
السحاب لم يعبأ بنواله، واستقر له استقرار الجبل لا يعن بزواله، وجاء في عصر مشعشع بالأولياء، وزمان مترعرع بمواليد الأتقياء، وكان دونهم مدلى اللهب، ومواطئ أقدام طائفته منها على أرض من الذهب، ورأوا النار بردا وسلاما فاقتحموها، وخاصموا ألسنتها وألجموها، إلى نهش الأفاعي وقد لفح سمومها، ونفح كالشرار سمومها، يأكلونها أكلا لمّا، ويحبونها حبا جمّا.
هذا وشأن أشياعه حجب العنا، وطل العنا، وغير هذا مما ابتدعوه، وابتدوه، ونسبوه إليه وشنعوه، مما لم يكن عليه، ولا يمكن أن ينسب إليه.
كان- رضي الله عنه رجلا صالحا، فقيها، شافعي المذهب.
قدم أبوه العراق، وسكن البطائح «1» بقرية يقال لها:" أم عبيدة"- بفتح العين-، فتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، ورزق منها الشيخ أحمد، وإخوته.
وكان أبو الحسن مقرئا يؤمّ بالشيخ منصور، فمات وزوجته حامل بالشيخ أحمد، فربّاه خاله منصور، فقيل: إنه ولد في أول المحرم سنة خمسمائة «2» .
ونشأ أحسن نشأة، وانضم إليه خلق عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه.
والطائفة المعروفة بالرفاعية، والبطائحية من الفقراء منسوبة إليه.
ولأتباعه أحوال عجيبة، من أكل الحيّات وهي حيّة، والنزول في التنانير وهي تتضرم بالنار فيطفئونها، ويقال: إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعدّ، ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل.
ولم يكن له عقب، وإنما العقب لأخيه، وأولاده يتوارثون المشيخة والولاية على تلك الناحية إلى الآن، وأمورهم مشهورة. «1»
وله شعر، فمنه على ما قيل:-
إذا جنّ ليلي هام قلبي بذكركم
…
أنوح كما ناح الحمام المطوّق
وفوقي سحاب يمطر الهمّ والأسى
…
وتحتي بحار بالأسى تتدفق
سلوا أمّ عمرو كيف بات أسيرها
…
تفكّ الأسارى دونه وهو موثق"
" فلا هو مقتول، ففي القتل راحة
…
ولا هو ممنون عليه فيطلق" «2»
قيل: إنه أقسم على أصحابه: إن كان فيه عيب ينبهونه عليه.
فقال الشيخ عمر الفاروثي «3» : يا سيدي! أنا أعلم فيك عيبا!.
قال: ما هو؟.
قال: يا سيدي! عيبك أننا من أصحابك.
فبكى الشيخ والفقراء، وقال: أي عمر! إن سلم المركب حمل من فيه.
قيل: إن هرة نامت على كمّ الشيخ أحمد، وقامت الصلاة، فقصّ كمّه، ولم يزعجها، ثم قعد فوصله، وقال: ما تغير شيء!.
وقيل: توضأ، فنزلت بعوضة على يده، فوقف لها حتى طارت.
وعنه قال: أقرب الطرق الانكسار، والذلّ، والافتقار، تعظّم أمر الله، وتشفق على خلق الله، وتقتدي بسنة سيدك رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .
وقيل: كان يجمع الحطب، ويجيء به إلى بيوت الأرامل، ويملأ لهم الجرة.
قيل له: أيش أنت يا سيدي؟.
فبكى فقال: أي فقير!، ومن أنا في البين، ثبّت نسب واطلب ميراث.
وقال: لما اجتمع القوم وطلب كلّ واحد شيء «2» ، دارت النوبة إلى هذا اللاشيء أحمد!.
وقيل: أي أحمد! اطلب. قلت: أي ربّ! علمك محيط بطلبي، فكرر عليّ القول، قلت: أي مولاي! أريد أن لا أريد، وأختار أن لا يكون لي اختيار. فأجابني، وصار الأمر له وعليه.
وقيل: إنه رأى فقيرا يقتل قملة، فقال: لا واخذك الله، شفيت غيظك؟!.
وعنه أنه قال: لو أن عن يميني خمسمائة «3» يروّحوني بمراوح الندّ والطيب، وهم من أقرب الناس إليّ، وعن يساري مثلهم من أبغض الناس إلي، معهم مقاريض يقرضون بها لحمي، ما زاد هؤلاء عندي، ولا نقص هؤلاء عندي بما فعلوه، ثم قرأ: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ
. «4»
وقيل: أتي إليه بطبق تمر، فبقي ينقي لنفسه الحشف يأكله، ويقول:" أنا أحقّ بالدون من غيري، فإني مثله دون"!.
وكان- رضي الله عنه لا يجمع بين لبس قميصين لا في شتاء، ولا في صيف، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلة، وإذا غسل ثوبه ينزل في الشطّ كما هو قائم يفركه، ثم يقف في الشمس حتى ينشف.
وإذا ورد عليه ضيف، يدور على بيوت أصحابه يجمع الطعام في مئزر.
وقال:" الفقير المتمكّن إذا سأل حاجة، وقضيت له، نقص من تمكنه درجة."«1»
وتوفي رضي الله عنه، يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، بأم عبيدة، وهو في عشر السبعين.
وكان لا يقوم للرؤساء، ويقول: النظر إلى وجوههم يقسي القلب".
ومنهم:
49-
الشّيخ عبد القادر بن أبي صالح عبد الله «2» بن جنكي دوست «3» الجيلي الحنبلي «13»
علم الأولياء، محيي الدين، سيد طائفة كانوا بالنهار لا يفترون، وبالأسحار هم
يستغفرون، طلع من هاشم بن عبد مناف في الذوائب، وكرع منه في غدير لم يرفق بالشوائب، وكان من الشرف في شامخ قلاله، وراسخ النسب العلوي في كرم خلاله، وكان له مجلس يوالي فيه الانتحاب، ويحرك فيه الأصحاب، وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ
«1» فما برح اجتهاده محدودا، وجهاده يقول: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً
. «2»
وكان مخلصا دون أشكاله، ومخلصا توكل على الله حق اتكاله، على أنه من بقية قوم يرجعون كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وصلوا الليالي بالأسحار، وركبوا ثبج الفيافي وقفار البحار، فحمدوا ما كانوا يعملون، وعلى ربهم كانوا يتوكلون.
مولده بجيلان «3» ، سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وقدم بغداد شابا، فتفقه على أبي سعيد المخرّمي «4» . وسمع الحديث من جماعة، وحدّث عن طائفة من الكبار.
قال السمعاني:" كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة، وشيخهم في عصره.
فقيه صالح، ديّن خيّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة. تفقّه على المخرّمي، وصحب الشيخ حمّادا الدباس.
قال: وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له، مضينا لزيارته، فخرج وقعد بين أصحابه، وختموا القرآن، فألقى درسا ما فهمت منه شيئا، وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس، فلعلّهم فهموا، لإلفهم بكلامه وعبارته. «5»
وقال ابن الجوزي:" كان أبو سعد المخرّمي قد بنى مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوّضت إلى عبد القادر، فتكلم على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صيت بالزهد، وكان له سمت
وصمت، وضاقت المدرسة بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستندا إلى الرباط، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، فعمّرت المدرسة، ووسّعت، وتعصّب في ذلك العوام، وأقام فيها يدرّس ويعظ إلى أن توفي. «1»
وقال الشيخ أبو بكر العماد- رحمه الله تعالى-: كنت قرأت في أصول الدين، فأوقع عندي شكا، فقلت: حتى أمضي إلى مجلس الشيخ عبد القادر، فقد ذكر أنه يتكلم على الخواطر، فمضيت وهو يتكلم، فقال: اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة. فقلت في نفسي: هذا قاله اتفاقا. فتكلم ثم التفت إلى ناحيتي، فأعاده، فقلت: الواعظ قد يلتفت!.
فالتفت إليّ ثالثة، وقال: يا أبا بكر!، فأعاد القول، ثم قال: قم قد جاء أبوك، وكان غائبا، فقمت مبادرا، وإذا أبي قد جاء «2» .
وقال أبو البقاء النحوي: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر، فقرؤوا بين يديه بالألحان، فقلت في نفسي: ترى لأي شيء ما ينكر الشيخ هذا؟.
فقال: يجيء واحد قد قرأ أبوابا من الفقه ينكر!.
فقلت في نفسي: لعل أنه قصد غيري. فقال: إياك نعني بالقول، فتبت في نفسي من اعتراضي، فقال: قد قبل الله توبتك «3» .
وقال السهروردي: عزمت على الاشتغال بأصول الدين، فقلت في نفسي: أستشير الشيخ عبد القادر؛ فأتيته، فقال قبل أن أنطق: يا عمر!، ما هو من عدّة القبر، يا عمر! ما هو من عدّة القبر!! «4» .
وقال الشيخ عبد القادر: طالبتني نفسي يوما بشهوة، فكنت أضاجرها، وأدخل في درب، وأخرج من آخر أطلب الصحراء، فرأيت رقعة ملقاة، فإذا فيها: ما للأقوياء والشهوات؟!، وإنما خلقت الشهوات للضعفاء. فخرجت الشهوة من قلبي.
قال: وكنت أقتات بخرّوب الشوك، وورق الخس، من جانب النهر «1» .
وحكى ابن النجار عن الشيخ عبد القادر قال:" بلغت بي الضائقة في الغلاء إلى أن بقيت أياما لا آكل طعاما، بل أتبع المنبوذات، فخرجت يوما إلى الشط، فوجدت قد سبقني الفقراء، فضعفت، وعجزت عن التماسك، فدخلت مسجدا، وقعدت، وكدت أصافح الموت، ودخل شاب أعجميّ ومعه خبز وشواء، فرآني، فقال: بسم الله، فأبيت، فأقسم علي، فأكلت مقصرا، وأخذ يسألني، ما شغلك؟ ومن أين أنت؟. فقلت: متفقّه من جيلان، قال: وأنا من جيلان، فهل تعرف لي شابا جيلانيا اسمه عبد القادر يعرف بسبط أبي عبد الله الزاهد؟.
فقلت: أنا هو!. فاضطرب لذلك، وتغير وجهه، وقال: والله يا أخي، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نفقتي، وبقيت بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا من مالك، فلما كان هذا اليوم الرابع، قلت: قد تجاوزتني ثلاثة أيام، وحلّت لي الميتة، فأخذت من وديعتك ثمن هذا الخبز والشواء، فكل طيبا، فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن. فقلت: وما ذاك؟. قال: أمّك وجّهت معي ثمانية دنانير، والله ما خنتك فيها إلى اليوم، فسكّنته، وطيّبت نفسه، ودفعت إليه شيئا منها «2» .
وحكي عنه أيضا أنه قال:" كنت في الصحراء أكرر في الفقه وأنا في فاقة، فقال لي
قائل- لم أر شخصه-: اقترض ما تستعين به على طلب الفقه.
فقلت: كيف أقترض وأنا فقير ولا وفاء لي؟. قال: اقترض وعلينا الوفاء.
فأتيت بقالا، فقلت: تعاملني بشرط: إذا سهّل الله أعطيتك، وإن متّ تجعلني في حلّ؟. تعطيني كل يوم رغيفا ورشادا.
فبكى وقال: أنا بحكمك. فأخذت منه مدّة، فضاق صدري، فقيل لي: امض إلى موضع كذا، فأيّ شيء رأيت على الدكّة، فخذه، وادفعه إلى البقال. فلما جئت رأيت قطعة ذهب كبيرة، فأعطيتها البقلي «1» .
ولحقني الجنون مرة، وحملت إلى المارستان، فطرقتني الأحوال حتى حسبوا أني متّ، وجاؤوا بالكفن، وجعلوني على المغتسل، ثم سرّي عني، وقمت، ثم وقع في نفسي أن أخرج من بغداد لكثرة الفتن، فخرجت إلى باب الحلبة، فقال لي قائل: إلى أين تمشي؟!، ودفعني دفعة خررت منها، وقال: ارجع فإن للناس فيك منفعة. قلت: أريد سلامة ديني.
قال: لك ذاك، ولم أر شخصه.
ثم بعد ذلك طرقتني الأحوال، فكنت أتمنى من يكشفها لي، فاجتزت بالظّفريّة «2» ، ففتح رجل داره، وقال: يا عبد القادر!، أيش طلبت البارحة؟. فنسيت، فسكتّ، فاغتاظ، ودفع الباب في وجهي دفعة عظيمة، فلما مشيت ذكرت فرجعت أطلب الباب، فلم أجده.
قال: وكان حمادا الدباس، ثم عرفته بعد، وكشف لي جميع ما كان يشكل علي، وكنت إذا غبت عنه لطلب العلم وجئت، يقول: أيش جاء بك إلينا؟ أنت فقيه، مرّ إلى الفقهاء، وأنا أسكت، فلما كان يوم جمعة، خرجت مع الجماعة في شدة البرد، فدفعني ألقاني في الماء، فقلت: غسل الجمعة، بسم الله، وكان عليّ جبّة صوف، وفي كمي أجزاء،
فرفعت كمّي لئلا تهلك الأجزاء، وخلّوني، ومشوا، فعصرت الجبّة، وتبعتهم، وتأذّيت بالبرد كثيرا، وكان الشيخ يؤذيني، ويضربني، وإذا جئت يقول: جاءنا اليوم الخبز الكثير، والفالوذج، وأكلنا وما خبّأنا لك وحشة عليك!. فطمع فيّ أصحابه، وقالوا: أنت فقيه، أيش تعمل معنا؟، فلما رآهم يؤذونني، غار علي، وقال: يا كلاب! لم تؤذونه؟ والله ما فيكم مثله!، وإنما أوذيه لأمتحنه، فأراه جبلا، لا يتحرك، ثم بعد مدة، قدم رجل من همذان، يقال له: يوسف الهمذاني، وكان يقال: إنه القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، لم أره، وقيل لي: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلما رآني قام، وأجلسني، ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحلّ لي المشكل عليّ، ثم قال لي: تكلّم على الناس. فقلت: يا سيدي! أنا رجل أعجميّ، قح، أخرس، أتكلّم على فصحاء بغداد؟!. فقال لي: أنت حفظت الفقه وأصوله، والخلاف والنحو، واللغة، وتفسير القرآن، لا يصلح لك أن تتكلم؟.
اصعد على الكرسي، وتكلّم، فإني أرى فيك عذقا سيصير نخلة. «1»
قال: وكنت أومر، وأنهى، في النوم واليقظة، وكان يغلب عليّ الكلام، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق، ولا أقدر أسكت، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة، ثم تسامع الناس بي، وازدحم الخلق عليّ، حتى صار يحضر مجلسي [نحو من]«2» سبعين ألفا.
وقال: فتّشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودّ لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفّي مثقوبة لا تضبط شيئا!. لو جاءني ألف دينار لم أبيّتها، وكان إذا جاءه أحد بذهب، يقول: ضعه تحت السجادة.
وقال:" أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني".
ثم قال:" أراد الله مني منفعة الخلق، فقد أسلم على يديّ أكثر من خمسمائة، وتاب على يديّ أكثر من مائة ألف. وهذا خير كثير، وترد عليّ الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسّخت، فأضع جنبي على الأرض، وأقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
«1» ، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني".
وقال الجبّائي: كنت أسمع في" الحلية" على ابن ناصر، فرقّ قلبي، وقلت: اشتهيت لو انقطعت، وأشتغل بالعبادة، ومضيت، فصلّيت خلف الشيخ عبد القادر، فلما جلسنا، نظر إليّ، وقال:" إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدّب، وإلا فتنقطع وأنت فريخ ما ريّشت «2» .
وعن أبي الثناء النهر ملكي قال: تحدّثنا أن الذباب ما يقع على الشيخ عبد القادر، فأتيته، فالتفت إليّ، وقال: أيش يعمل عندي الذباب؟ لا دبس الدنيا، ولا عسل الآخرة!؟. «3»
وقال أبو البقاء العكبري: سمعت يحيى بن نجاح الأديب يقول: قلت في نفسي: أريد أن أحصي كم يقصّ الشيخ عبد القادر شعر تائب؟. فحضرت المجلس ومعي خيط، فلما قصّ شعرا، عقدتّ عقدة تحت ثيابي في الخيط، وأنا في آخر الناس، وإذا به يقول:" أنا أحلّ وأنت تعقد؟ "«4» .
وحكى ابن النجار عنه: أنه كان في وسط الشتاء وبرده، وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية، وحوله من يروّحه بالمروحة. قال: والعرق يخرج من جسده كما يكون في شدّة الحر! «5» .
وقال أحمد بن ظفر بن هبيرة: سألت جدي أن أزور الشيخ عبد القادر، فأعطاني مبلغا من الذهب لأعطيه، فلما نزل عن المنبر سلّمت عليه، وتحرّجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع، فقال: هات ما معك، ولا عليك من الناس!، وسلّم على الوزير.
وقال صاحب" مرآة الزمان"«1» : كان سكوت الشيخ عبد القادر أكثر من كلامه، وكان يتكلّم على الخواطر، وظهر له صيت عظيم، وقبول تام، وما كان يخرج من مدرسته إلا يوم الجمعة أو إلى الرباط.
وتاب على يده معظم أهل بغداد، وأسلم خلق، وكان يصدع بالحق على المنبر، وكان له كرامات ظاهرة.
وحكى أبو الحسن علي بن قاسم الهكّاري قال: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر الجيلي، فوجدت بين يديه غلاما ينشد:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
القصيدة، ثم رأيته ثاني ذلك اليوم، ينشدها بين يديه، فتفكرت في سبب تكرارها، وسألت الشيخ عبد القادر عن ذلك؟.
فقال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله! أمرت أن تحفظ عنك هذه القصيدة؟.
قال: نعم.
فقلت: يا رسول الله! وهي مدح فيك؟.
قال: نعم، ومن قالها ثلاث مرات غفر الله له، فأحببت بعد ذلك أن أسمعها كل يوم، أو كما قال.
انتقل إلى رحمة الله تعالى في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة «2» ، وشيّعه خلق لا يحصون، ودفن بمدرسته، رحمه الله تعالى.