الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان يلبس ثيابا طوالا تكنس الأرض وهو حاف، مكشوف الرأس، طويل الصمت، قليل استعمال الماء، ولكثير من الناس فيه عقيدة جميلة، ويحكون عنه أنه يكاشفهم في كثير من الأوقات. وكان بعض من يعتقد فيه يحضر له شيئا من المأكول والمشروب، ويجتهد فيه، فيتناول منه قدرا يسيرا.
ولازم هذه الطريقة الشاقة إلى أن توفي في سادس شعبان سنة سبع وخمسين وستمائة، بدمشق. ودفن بتربة المولّهين، بقاسيون، ولم يتخلّف عن جنازته إلا القليل من الناس. وكان من غرائب العالم، يترنّح في مشيته، ولا يلتفت إلى أحد ولا يعبأ به. «1»
ومنهم:
64- الأكّال: محمّد بن خليل بن عبد الوهّاب بن بدر. أبو عبد الله البيطار
«13»
حبّب إلى الناس حسن منظره، ويمن محضره، فكانوا يغشونه، وكادوا بهدب الأجفان يعشونه، لأنهم كانوا للنصح لا يستغشونه، ولخالص الودّ معه لا يغشونه، فكان لا يزال مجلسه معمورا، ومجالسه معذورا، رغبة في أنسه، ومحبة لنوعه الغريب في جنسه.
وكان يقصد من السلطان فمن دونه بأطايب الطعام، ومواهب الإنعام، وتنوع له تلك الأطعمة، وتبذل في النفقات عليها الأيدي المنعمة، ولا يأكل إلا بالأجرة تلك المآكل، ثم يجعل تلك الجعالة للأرمل والثاكل، فما جاءه منها بالأجرة مقربا أكل منه، وأطعم، وفضّ ختام ذلك المبلغ وأنعم، وما جاءه بغير شيء ردّه، وتركه ما مدّ يده إليه ولا مدّه.
ويحكى عنه في هذا حكايات غرائب ونوادر: حكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب رحمه الله، قال: اجتمع طائفة من الأمراء يوما، فتحدّثوا في طريقة الشيخ محمد، فقالوا: نريد نغلبه، ونتحيل حتى يأكل شيئا بغير أجرة!. فقال واحد منهم:
أنا أفعل هذا، فبعث، فاشترى رأسين سمان من الغنم، ثم عمد إلى خرجين لطيفين، فملأ عين كل واحد منهما أرزا والآخر سكرا، ثم شدّهما عليهما، وبعث بهما رجلا استغفل الشيخ محمد، حتى أتى من الجامع، وفتح باب بيته، ودخل، فلما علم أنه قد صار داخل الدار، ساق الرأسين إلى داخل الدار، ثم ردّ الباب عليهما وسكّره، فلما شعر الشيخ محمد بدخولهما، خرج فرآهما!، فقال: نعم، يريدون أن آكل هذا بلا أجرة!، لا كيد، ولا كرامة، والرجل الذي أحضرهما خارج الباب يسمع، فانطلق إلى أصحابه، وأخبرهم. ثم إن الشيخ محمدا لم يزل بالباب حتى فتحه، وأخرج الغنم إلى الزقاق بما عليهما وطردهما، وجعل يقول: يا غنم! إن كان لهم حاجة يبعثوا معك الأجرة حتى آكل، وإلا ما آكل. فلما أبعدت الغنم رجع الشيخ محمد إلى داره، وتمت الغنم جارية تشق الأسواق، والطرقات، حتى أتت دار القيامرة، فدخلت إلى الموضع الذي بعثت منه، بما عليها، لم يتعرّض لها أحد!. فلما رأوا ذلك أكبروه، ثم ركب بعض أولئك الجماعة لزيارة الشيخ على عادتهم، فلما دخل عليه قال: إنكم شطّار ملاح، أردتم أن آكل لكم بالسخرة، وما كفاكم هذا حتى أردتم أن أطبخ لكم بالسخرة، وأن أذبح لكم، وأسلخ بالسخرة، وأنا هذا ما أفعله، ولا آخذ إلا طعاما مطبوخا، لا يكون عليّ في آكله كثير تعب، وبعد هذا ما آكله إلا بالأجرة، قم عني، قم!.
فقام، وأتى أصحابه، وأعلمهم، فعملوا له أطعمة فاخرة، ثم بعثوا معها مائة دينار، حتى أكل من الطعام، وفرّق الذهب بأجمعه في سبيل الخير.
قال شيخنا شهاب الدين: وكان هذا دأب الشيخ محمد، ومهما جاءه، فرّقه على المستحقين، لا يدّخر شيئا منه، وكان عنده لكل طعام أجره، وكل ما كان الطعام أفخر، كانت أجرته على أكله أكثر، حتى سمّي بالأكّال لذلك، وكان من أقلّ الناس أكلا. هذا ما حكاه لي.
وأصله من جبل بني هلال، ومولده بقصر حجاج، خارج دمشق، سنة ستمائة «1»
وكان رجلا صالحا، كثير الإيثار، وحكاياته مشهورة في أخذه الأجرة على ما يأكله وما يقبله من برّ الأمراء والملوك وغيرهم، مشهورة، ولم يسبقه إلى ذلك أحد، ولا اقتفى أثره من بعده.
قال اليونيني في" الذيل"«2» : ولا شك أنه كان له حال ينفعل له بها ذلك، وجميع ما يفتح به على كثرته يصرفه في القرب، وتفقّد المحابيس وغيرهم من المحاويج، والأرامل، والمنقطعين. وكان بعض الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة، وينسبه في فعله، فإذا اتفق اجتماعه به انفعل له انفعالا كليا، ولا يستطيع الامتناع من إعطائه كل ما يروم، وكان مع هذا حسن الشكل، مليح العبارة، حلو الحديث، له قبول تام من سائر الناس.
قال قطب الدين اليونيني: وكان كثير المحبة في والدي، والتردد إليه، لما نزل دمشق في سنة خمس وخمسين وستمائة، والأكل عنده بغير أجرة، وهو مطلق عنده دون غيره «3» توفي بدمشق في خامس شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة.