الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
78- حمّاد الحلبيّ
«13»
ذو القدر الوافي، والمشعل بالثريا وبشر الحافي، السري مع أنه معروف، والنوري حينه إذا سئل منه معروف.
قدم دمشق، ونزل بظاهرها على رجل متسبب من أهل الصلاح متكسب من الجبل، كان لا يأكل إلا من طعامه، ولا يكتسي إلا من لباسه، ولا يبيت إلا عنده في بستان له بمرج الدحداح، وكان الشيخ يقرئ القرآن الكريم بجامع التوبة بالعقيبة «1» ، تبرعا واحتسابا، يجلس لإقراء الناس بياض كل يوم في أخريات الرواق الشمالي به.
وكان رجلا ربعة أبيض بحمرة، أبيض الرأس واللحية، أقنى الأنف، ضعيف العينين، منوّر الوجه والشيبة، عليه سيما الولاية، واتّهمه أهل العرفان، فكان لا يزال متوجها إلى القبلة على طهارة كاملة، منتصبا للقراءة، والإقراء، فارغا من الناس، لا يقبل لأحد منهم شيئا.
وكان شيخنا ابن الفركاح يخرج إلى زيارته في كل أسبوع مرة، أو مرتين، وكذلك شيخنا ابن الزملكاني، رحمهم الله تعالى.
وزاره شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يذكره بالخير ويثني عليه.
حكى لي الشيخ شرف الدين ابن النجيح، قال: ذكر بين يدي الشيخ- يعني ابن تيمية- أناس من صلحاء الوقت، فأمسك بأذن القائل، وقال له: اجعل بالك، وافتح عينيك:
" الصالح حماد، الصالح حماد"، وبقي يكررها.
كنت كثير التردد والزيارة له، وكان على قدم صدق وهدى، وكتاب منير. ولو حلفت أنه لم تقع عيني على مثله لكنت بارّا. ولم يحك عنه أنه قال، ولا ادّعى، ولا رزأ أحدا من ماله شيئا. ولما أقحط الناس سنة ثمان عشرة وسبعمائة، واستعدوا للاستسقاء، أتيته وقلت: يا سيدي! الناس في مشقة، فقال: لو سكتوا كفوا. فأعدت عليه القول، وقلت: لو دعوت لهم.
فقال لي: اسمع! - وفقنا الله وإياك-: يحكى أن الناس أقحطوا في سنة من السنوات؛ فأمسكت السماء، وجفّ الماء، فهمّوا بالاستسقاء، واستعدوا له، فلما أرادوا الخروج إلى الصحراء أتوا رجلا صالحا كان في جانب عنهم، توسّموا خيره، فسألوه في الخروج معهم، فخرج معهم، حتى مرّ ببستان في طريقه، فطرق الباب، فخرج إليه القيّم به، فقال له: ما تريد؟. فقال له: اسق بستانك. فقال له: هذا ما يلزمك، أنا أسقي بستاني متى شئت.
فالتفت ذلك الصالح إلى الناس، وقال: ألا تسمعون ما يقول؟. قالوا: قد سمعنا.
فقال: إذا كان هذا كره أن أعترض عليه، أتعترضون أنتم على الله؟. ثم تركهم ورجع. ولم يخرج الشيخ حماد مع الناس إلى الاستسقاء.
قلت: وكنا نسمعه كثيرا ما يقول:" كان فقير، قال فقير، جرى لفقير" ويذكر أمورا عظيمة، وكرامات ظاهرة، أنه إنما يحكيها عن نفسه، وإنما يريد الكتمان.
ومما حدثنا به- وأظنه إنما حكاه عن نفسه- قال: كان بحلب فقير صادق الطلب، نودي في سرّه: حاجتك في مصر!. فخرج يريد مصر، وجعل عليه أن لا يسأل أحدا شيئا، وكان شديد الفاقة، وكان لا يأكل إلا من مباحات الأرض، فلما عدى غزة بفراسخ، دخل الرمل، فقال: أيتها النفس! ليس هنا ما تقتاتين به، فصبرا على الجوع، أو فالرجوع، ثم قوّى عزيمته، ودخل الرمل حتى أتى" قطية"«1» ولم يطعم طعاما تلك الأيام، فلما دخل" قطية" رأى ما في أسواقها، فغض بصره حتى خرج منها، وأتى حائطا في منقطع الحدائق بها،