الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال:" الأنبياء ينبسطون على بساط الأنس، والأولياء على درجات الكرامة."«1»
وقال إبراهيم بن المواز: دخلت يوما على إبراهيم القصار، فقال: ادع لي فلانا القوّال- صبيا كان بالرّقّة- فدعوته له، فقال له: أعد الأبيات التي كنت تغنيها بالأمس، فأخذ الصبي يغني:
إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي
…
وموضع شكواي فما أنا صانع؟
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
…
لي الليل هزّتني إليك المضاجع
وأمضي نهاري بالحديث وبالمنى
…
ويجمعني والليل والهمّ جامع
قال: فأخذ الشيخ يبكي ويصيح، ويقول: وا شوقاه
…
! إلى من هذا وصفه، وإلى زمان كشف لنا عن بوادي هذه الأحوال.
ومنهم:
37- أبو بكر الشّبليّ
«13»
واسمه: دلف بن جحدر. وقيل: ابن جعفر. وقيل: جعفر بن يونس.
رجل كانت به الأيام هزّة «2» ، وللأنام عزّة، وللدنيا نضارة، وللنعمى غضارة، وسم الليالي وهي بهيمة، ونسم على رياض الدنو وهي نسيمة، فحلّ بها حيث لا يدنو المحال، فجاب السماء
وعيّوقها «1» ، وجاز زرع السنبلة وسوقها، وكان ملكا في زي بشر، وواحدا إلا أنه ثاني النجم وثالث الشمس والقمر، فلما فقد عزّ عزاؤه، ووقد ضرام الأحشا وقلّ جزاؤه، فذهب بالأجور، ومضى وكل الناس فيه مأجور، ولم نر منذ زمان أكثر من يوم موته باكيا، وباقيا لو فدي باليا.
أصله: من أسروشنة «2» . ومولده: سرّ من رأى.
وقيل: إنه خراساني الأصل، بغدادي المولد والمنشأ «3» .
تاب في مجلس خير النسّاج. وصحب أبا القاسم الجنيد، ومن في عصره من المشايخ، وصار أوحد الوقت علما، وحالا، وظرفا «4» .
وكان فقيها، عالما، على مذهب مالك، وكتب الحديث الكثير [ورواه] . «5»
وعاش سبعة وثمانين سنة، ومات في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن بمقبرة الخيزران ببغداد. «6»
وروي أنه لما تاب في مجلس خير النساج أتى نهاوند، وقال: كنت والي بلدكم، فاجعلوني في حلّ «7» ! ..
ومجاهداته في بدايته فوق الحد، ومن جملة ذلك: أنه اكتحل بكذا كذا ملح ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم «1» . قال: فلما زاد الأمر حمّيت الميل فاكتحلت به.
وقال الشبلي:" اطّلع الحقّ عليّ فقال:" من نام غفل، ومن غفل حجب". وأنشد:
عجبا للمحبّ كيف ينام
…
كل نوم على المحبّ حرام
وقيل له: متى يكون الرجل مريدا؟. فقال:" إذا استوت حالته في السفر والحضر، والمشهد والمغيب."«2»
وقال عبد الله بن محمد الدمشقي:" كنت واقفا يوما على حلقة الشبلي، فجعل يبكي ولا يتكلم؛ فقال رجل: يا أبا بكر! ما هذا البكاء كله؟!.
فأنشأ يقول:
إذا عاتبته، أو عاتبوه
…
شكا فعلي، وعدّد سيئاتي
أيا من دهره غضب وسخط
…
أما أحسنت يوما في حياتي؟! «3»
وقال بعض أصحابه:" رأيت الشبلي في المنام، فقلت له: يا أبا بكر! من أسعد أصحابك بصحبتك؟. فقال: أعظمهم لحرمات الله، وألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله، وأعرفهم بنقصانه، وأكثرهم تعظيما لما عظّم الله من حرمة عباده."«4»
وقال له رجل: ادع لي. فأنشأ يقول:
مضى زمن والناس يستشفعون بي
…
فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع «5»
وروي أن الجنيد قال له يوما: لو رددت أمرك إلى الله لاسترحت.
فقال الشبلي:" يا أبا القاسم! لو رد الله تعالى أمرك إليك لاسترحت".
فقال الجنيد:" سيوف الشبلي تقطر دما."«1»
وقال:" سهو طرفة عين عن الله تعالى- لأهل المعرفة- شرك بالله تعالى."«2»
وقال الشبلي:" ليس من احتجب بالخلق عن الحق كمن احتجب بالحق عن الخلق.
وليس من جذبته أنوار قدسه إلى أنسه، كمن جذبته أنوار رحمته إلى مغفرته". «3»
وكان يقول في مناجاته:" أحبّك الخلق لنعمائك، وأنا أحبك لبلائك". «4»
وقال عبد الله بن محمد الدمشقي:" كنت واقفا على حلقة الشبلي، في جامع المدينة، فوقف سائل على حلقته، وجعل يقول: يا الله، يا جواد!، فتأوه الشبلي وصاح، وقال:
كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود؟، ومخلوق يقول في شكله:
تعود بسط الكف حتى لو انه
…
ثناها لقبض لم تجبه أنامله
تراك- إذا ما جئته- متهللا
…
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه
…
لجاد بها فليتّق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته
…
فلجّته المعروف والجود ساحله
ثم بكى، وقال: بلى!! يا جواد!. فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، ثم مننت- بعد ذلك- على أقوام بعزّ الاستغناء عنهم، وعما في أيديهم بك؛ فإنك الجواد كلّ الجواد، لأنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حدّ له ولا صفة. فيا جواد يعلو كلّ جواد، وبه جاد كلّ من جاد." «5»
وقال بعضهم: كنا يوما في بيت الشبلي، فأخّر العصر، ونظر إلى الشمس، وقد تدلّت للغروب، فقال: الصلاة! يا سادتي!. وقام فصلى، ثم أنشأ يقول ملاعبة، وهو يضحك: ما أحسن قول من قال:
نسيت اليوم- من عشقي- صلاتي
…
فلا أدري عشائي من غدائي
فذكرك- سيدي- أكلي وشربي
…
ووجهك إن رأيت شفاء دائي «1»
وقال له رجل: إلى ماذا تستريح قلوب المشتاقين؟. قال: إلى سرور من اشتاقوا إليه، وموافقته".
وأنشد:
أسرّ بمهلكي فيه، لأني
…
أسرّ بما يسرّ الإلف جدّا
ولو سئلت عظامي عن بلاها
…
لأنكرت البلى، وسمعت جحدا
ولو أخرجت من سقمي لنادى
…
لهيب الشوق بي يسأله ردّا «2»
وقال عبد الله البصري: سئل الشبلي، وأنا حاضر: إلى ماذا تحنّ قلوب أهل المعارف؟.
فقال:" إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب، من حسن العناية في الحضرة بغيبتهم عنها".
وأنشأ يقول:
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن
…
ما كان قلبي للصبابة معهدا «3»
وقيل للشبلي: لم تصفرّ الشمس عند الغروب؟.
فقال:" لأنها عزلت عن مكان التمام، فاصفرّت لخوف المقام، وهكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفرّ لونه، لأنه يخاف المقام، فإذا طلعت الشمس، طلعت مضيئة،
وكذلك المؤمن إذا بعث من قبره خرج ووجهه يشرق".
وقال:" أليس الله تعالى يقول: (أنا جليس من ذكرني) «1» ؟. فما الذي استفدتم من مجالسة الحق؟ ". وأنشد:
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
…
وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكنت بلا وجد أموت من الهوى
…
وهام عليّ القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري
…
شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودا بغير تكلّم
…
ولا حظت معلوما بغير عيان «2»
وقال:" أدنى علامات الفقير: لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد، ثم خطر بباله أن يمسك منها قوت يوم، ما صدق في فقره! ".
وقال أبو علي المغازلي: ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله تعالى فتحدوني على ترك الأشياء، والإعراض عن الدنيا، ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس، [ثم لا أبقى على هذا ولا على هذا، وأرجع إلى الوطن الأول مما كنت عليه من سماعي القرآن]
فقال الشبلي:" ما [طرق سمعك من القرآن]«3» فاجتذبك الله إليه فهو عطف منه عليك
ولطف، وما رددت على نفسك فهو شفقة منه عليك، لأنه لم يصح لك التبري عن الحول والقوة في التوجه إليه". «1»
وقال أحمد بن مقاتل: كنت مع الشبلي في مسجد ليلة من رمضان، وهو يصلي خلف الإمام، فقرأ الإمام: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
«2» فزعق زعقة، قلت:
طارت روحه، وهو يرتعد، ويقول:" بمثل هذا خاطب الأحباب" يردد ذلك كثيرا.
وروي أنه سمع قائلا يقول:" الخيار عشرة بدانق" فصاح وقال: إذا كان الخيار كل عشرة بدانق، فكيف الشرار؟!. «3»
وسمع القوّال يقول شيئا، فصاح، وتواجد، فقيل له: يا أبا بكر! مالك من بين الجماعة؟. فقام وتواجد، وقال:
لي سكرتان وللندمان واحدة
…
شيء خصصت به من بينهم وحدي «4»
وحكي أن فقيها من أكابر الفقهاء يكنى بأبي عمران، كانت حلقته بجنب حلقة الشبلي في جامع المنصور، وكان كلام الشبلي يعطل على ابن عمران وأصحابه كلامهم، فسأله أصحابه يوما عن مسألة في الحيض، وقصدوا إخجاله؟. فأجاب الشبلي عنها، وذكر مقالات الناس في تلك المسألة، والخلاف فيها. فقام أبو عمران وقبّل رأسه، وقال: يا أبا بكر! قد استفدت في هذه المسألة عشر مقالات لم أسمعها، وكان عندي من جملة ما قلت ثلاث أقاويل! «5»
وقال إبراهيم الحداد:" كنت يوما عند الشبلي جالسا وقد انصرف أكثر الناس عنه،
وبقي حوله جماعة، فسألوه أن يدعو؟.
فسكت ساعة ثم قال:" اللهم اضربهم بسياط الخوف، واقتلهم بأزمّة الشوق، وافنهم عن مؤالفات الرسوم، وأغنهم عن ملاحظات الفهوم. اغفر لهم إن انصرفوا عنك، ووفقهم إن أقبلوا عليك، خرّب منازل فنائهم، واعمر منازل بقائهم، وكن لهم كما لم تزل، اشغل اللهم الكل بمفارقة الكل".
ثم أنشأ يقول:
الناس كلهم بالعيد قد فرحوا
…
وما فرحت به، والواحد الصمد
لما تثبتّ أني لا أعاتبكم
…
غضضت طرفي فلم أنظر إلى أحد «1»
ثم قال:" إلهي طموح الآمال قد خابت إلا لديك، وعكوف الهمم قد تعطّلت إلا عليك، ومذاهب المعارف قد قصرت إلا إليك".
وكان ابن بشار نهى الناس عن الذهاب إلى الشبلي والاستماع من كلامه، فلقيه يوما، فجعل الشبلي يكلمه، وابن بشار يقول: كم من خمس من الإبل؟!. فلما أكثر، قال له الشبلي: في واجب الشرع شاة، وفيما يلزمنا: كلّها. فقال ابن بشار: لك بهذا القول إمام؟.
قال: نعم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلّفت لعيالك؟. قال: الله ورسوله. فذهب ابن بشار ولم ينه عن مجلسه بعد ذلك.
وسئل الشبلي عن قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
«2» ؟.
فقال:" أبصار الرءوس: عما حرّم الله. وأبصار القلوب: عما سوى الله عز وجل «3» ".
وقال الشبلي:" كنت يوما جالسا فجرى بخاطري أني بخيل، فقلت: أنا بخيل!.
فقاومني خاطري، وقال: بلى! إنك بخيل!. فقلت:" مهما فتح علي اليوم، لأدفعنه إلى أول فقير يلقاني! ".
قال: فبينا أنا أتفكر إذ دخل عليّ صاحب لمؤنس الخادم «1» ، ومعه خمسون دينارا، فقال: اجعل هذه في مصالحك. فأخذتها وخرجت. وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزين، يحلق رأسه، فتقدّمت إليه، وناولته الصرة، فقال لي: أعطها للمزين. فقلت:" إنها دنانير! " فقال:" أو ليس قد قلنا إنك بخيل؟! ". فناولتها للمزيّن، فقال:" من عادتنا أن الفقير إذا جلس بين أيدينا لا نأخذ منه أجرا! ". قال: فرميتها في دجلة، وقلت:" ما أعزّك أحد إلا أذلّه الله".
وقال أبو محمد الحريري: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها، فكان ينشد طول ليلته هذه الأبيات «2» :
كل بيت أنت ساكنه
…
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
…
يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجا
…
يوم أدعو منك بالفرج «3»
ورآه بعض الصالحين بعد موته، فقال:" ما فعل الله بك؟ ".
فقال:" لم يطالبني بالبراهين على الدعاوي إلا على شيء واحد، وذاك أني قلت يوما: لا خسارة أعظم من خسارة الجنة ودخول النار. فقال لي:" وأي خسارة أعظم من خسران لقائي؟ ".
ورآه آخر في النوم فقال:" ما فعل الله بك؟ ".
فقال:" ناقشني حتى أيست، فلما رأى إياسي تغمّدني برحمته".