المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ١٩

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء التاسع عشر

- ‌تصدير

- ‌[تتمة الفن الخامس في التاريخ]

- ‌[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]

- ‌الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين

- ‌ذكر خلافة أبى بكر الصديق وشىء من أخباره وفضائله

- ‌ذكر نبذة من فضائل أبى بكر الصديق ومآثره فى الجاهلية والإسلام

- ‌ذكر صفة أبى بكر الصديق

- ‌ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر على أمته من بعده وحجة من قال ذلك

- ‌ذكر بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وخبر السقفية، وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الإمارة

- ‌ذكر ما تكلم به أبو بكر الصديق بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية العامة

- ‌ذكر انفاذ جيش أسامة

- ‌ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين

- ‌ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان

- ‌ذكر عقد أبى بكر رضى الله عنه الألوية

- ‌ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قيائل العرب وما آل إليه أمره بعد ذلك

- ‌ذكر خبر تميمم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد

- ‌ذكر مسير خالد الى البطاح ومقتل مالك بن نويرة

- ‌ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة

- ‌ذكر الحروب الكائنة بين بين المسلمين وبين مسيلمة وبين أهل اليمامه وقتل مسيلمة

- ‌ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله

- ‌ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم إلى الحطم وما كان من أمرهم

- ‌ذكر مسير خالد بن الوليد الى العراق

- ‌ذكر وقعة الثنى

- ‌ذكر وقعة الولجة

- ‌ذكر وقعة أليس

- ‌ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة

- ‌ذكر ما كان بعد فتح الحيرة

- ‌ذكر فتح الأنبار

- ‌ذكر فتح عين التمر

- ‌ذكر خبر دومة الجندل

- ‌ثم كانت وقعة مصيخ

- ‌وقعة الثنى والزميل

- ‌ذكر وقعة الفراض

- ‌ذكر فتوح الشام

- ‌ذكر مسير خالد بن الوليد الى الشام وما فعل فى مسيره إلى أن التقى بجنود المسلمين بالشام

- ‌ذكر وقعة أجنادين

- ‌ذكر وقعة اليرموك

- ‌ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما ذكرناه

- ‌سنة إحدى عشرة

- ‌سنة اثنتى عشرة

- ‌ذكر وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومدة خلافتة

- ‌ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه رضى الله عنه

- ‌ذكر أولاد أبى بكر وأزواجه

- ‌ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه

- ‌ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

- ‌ذكر نبذة من فضائل عمر رضى الله عنه ومناقبه

- ‌ذكر صفة عمر رضى الله عنه

- ‌ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

- ‌ذكر فتوح مدينة دمشق

- ‌ذكر شىء مما قبل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها

- ‌ذكر غزوة فحل

- ‌ذكر فتح بلاد ساحل دمشق

- ‌ذكر فتح بيسان وطبرية

- ‌ذكر الوقعة بمرج الروم

- ‌ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيرز ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس

- ‌ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية

- ‌ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم

- ‌ذكر فتح قيسارية وحصن غزة

- ‌ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة

- ‌ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء

- ‌ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين

- ‌ذكر فتح الجزيرة وأرمينية

- ‌ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس

- ‌ذكر وقعة النمارق

- ‌ذكر وقعة السقاطية بكسكر

- ‌ذكر وقعة الجالينوس

- ‌ذكر وقعة قس الناطف

- ‌ذكر وقعة أليس الصغرى

- ‌ذكر وقعة البويب

- ‌ذكر خبر سوقى الخنافس وبغداد

- ‌ذكر خبر القادسية وأيامها

- ‌ذكر يوم أرماث

- ‌ذكر أغواث

- ‌ذكر يوم عماس، وهو اليوم الثالث

- ‌ذكر ليلة الهرير

- ‌ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس

- ‌ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام

- ‌يوم برس، ويوم بابل، ويوم كوثى

- ‌ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية

- ‌ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير

- ‌ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها إيوان كسرى

- ‌ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها

- ‌ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان

- ‌ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة

- ‌ذكر فتح تكريت والموصل

- ‌ذكر فتح ما سيذان

- ‌ذكر فتح قرقيسيا

- ‌ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى

- ‌ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين

- ‌ذكر فتح رامهرمز

- ‌ذكر فتح السوس

- ‌ذكر مصالحة جنديسابور

- ‌ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس

- ‌ذكر غزوة فارس من البحرين

- ‌ذكر وقعة نهاوند وفتحها

- ‌ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما

- ‌ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما

- ‌ذكر فتح أصبهان وقم وكاشان

- ‌ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان

- ‌ذكر فتح الرى

- ‌ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان

- ‌ذكر فتح أذربيجان

- ‌ذكر فتح الباب

- ‌ذكر فتح موقان

- ‌ذكر غزو الترك

- ‌ذكر غزو خراسان

- ‌ذكر فتح شهرزور والصامغان

- ‌ذكر فتح توج

- ‌ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدنية شيراز وأرّجان وسينيز وجنابا وجهرم

- ‌ذكر فتح فساودرابجرد

- ‌ذكر فتح كرمان

- ‌ذكر فتح سجستان

- ‌ذكر فتح مكران

- ‌ذكر فتح بيروذ من الأهواز

- ‌ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد

- ‌ذكر فتوح مصر وما والاها

- ‌ذكر مسير عمرو الى مصر

- ‌ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط إلى الجزيرة

- ‌ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت

- ‌ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان من الحروب بينهم إلى أن فتحت الإسكندرية

- ‌ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية

- ‌ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة

- ‌ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب

- ‌ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية إلى الفسطاط- واختطاطه

- ‌ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وإبطال عمرو تلك العادة

- ‌ذكر ما قرر فى أمر الجزية من الخراج

- ‌ذكر خبر المقطم

- ‌ذكر خبر خليج أمير المؤمنين

- ‌ذكر الخبر عن فتح الفيوم

- ‌ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرت

- ‌ذكر الغزوات إلى أرض الروم

- ‌ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوحات والغزوات

- ‌ذكر فرض العطاء وعمل الديوان

- ‌ذكر بناء الكوفة والبصرة

- ‌ذكر عزل خالد بن الوليد

- ‌ذكر بناء المسجد الحرام

- ‌ذكر عزل المغيرة بن شعبة

- ‌سبب ولاية كعب بن سور قضاء البصرة

- ‌ذكر القحط وعام الرمادة

- ‌ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه

- ‌ذكر قدوم عمر الى الشام بعد الطاعون

- ‌ذكر اجلاء يهود خيبر منها

- ‌ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة

- ‌ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته

- ‌ذكر قصة الشورى

- ‌ذكر أولاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعنهم وأزواجه

- ‌ذكر عمال عمر رضى الله عنه وعنهم على الامصار

- ‌كتابه

- ‌قضاته

- ‌ذكر خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه

- ‌ذكر صفته ونبذة من فضائله

- ‌ذكر بيعة عثمان رضى الله عنه

- ‌ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان

- ‌ذكر خلاف أهل الاسكندرية

- ‌ذكر غزو ارمينية وغيرها وما وقع من الصلح

- ‌ذكر غزو معاوية الروم

- ‌ذكر فتح كابل

- ‌ذكر غزو افريقية وفتحها

- ‌ذكر فتح جزيرة قبرس

- ‌ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح إصطخر ودرابجرد

- ‌ذكر غزو طبرستان

- ‌ذكر غزو الصوارى

- ‌ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان

- ‌ذكر فتح خراسان

- ‌ذكر فتح كرمان

- ‌ذكر فتح سجستان وكابل وغيرها

- ‌ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله

- ‌ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السّنين

- ‌سنة أربع وعشرين

- ‌سنة خمس وعشرين

- ‌سنة ست وعشرين

- ‌سنة سبع وعشرين

- ‌سنة ثمان وعشرين

- ‌سنة تسع وعشرين

- ‌ذكر عزل أبى موسى الأشعرى عن البصرة وعثمان بن العاص عن عمان والبحرين واستعمال عبد الله بن عامر على ذلك

- ‌ذكر الزيادة فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر اتمام عثمان الصلاة وما تكلم الناس به فى ذلك

- ‌سنة ثلاثين

- ‌ذكر عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاية سعيد بن العاص

- ‌ذكر جمع القرآن

- ‌ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه الى الربذة

- ‌سنة احدى وثلاثين

- ‌سنة اثنتين وثلاثين

- ‌ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه

- ‌سنة ثلاث وثلاثين ذكر خبر من سار من أهل الكوفة إلى الشام وما كان من أمرهم

- ‌سنة أربع وثلاثين ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرىّ

- ‌ذكر ابتداء الخلاف على عثمان

- ‌ذكر كلام على لعثمان وجوابه له

- ‌ذكر ارسال عثمان الى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله

- ‌سنة خمس وثلاثين

- ‌ذكر مقتل عثمان رضى الله عنه

- ‌ذكر أزواج عثمان وأولاده

- ‌كتابه وقضاته وحجابه وأصحاب شرطته

- ‌ذكر عماله على الأمصار فى سنة مقتله

- ‌ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر

- ‌فهرس الجزء التاسع عشر

الفصل: ‌ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت

‌ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت

وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية قال [1] : وأرسل المقوقس إلى عمرو يقول: إنّكم قد ولجتم بلادنا [2] ، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم فى أرضنا؛ وإنّما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّتكم الرّوم ومعهم من العدد والسّلاح، وقد أحاط بكم هذا النّيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع منهم؛ فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ، وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الرّوم؛ فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلّكم أن تندموا

ونحو ذلك من الكلام.

فلما أتت رسول المقوقس عمرا حبسهم عنده يومين وليلتين؛ حتى خاف عليهم المقوقس وقال لأصحابه: أترون أنّهم يقتلون الرّسل ويحبسونهم، ويستحلّون ذلك فى دينهم؟ وإنّما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين، ثم ردّهم عمرو. وأجابه مع رسله: إنّه ليس بينى وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إمّا أن دخلتم فى الإسلام وكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم

[1] ابن عبد الحكم 65.

[2]

ابن عبد الحكم: «فى بلادنا» .

ص: 291

فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون. وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين.

فلمّا جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتم هؤلاء؟

قالوا: رأينا قوما، الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتّواضع أحبّ إليهم من الرّفعة، ليس لأحدهم فى الدّنيا رغبة ولا نهمة؛ إنّما جلوسهم على التّراب، وأكلهم على الرّكب، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السّيّد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصّلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشّعون فى صلاتهم.

فقال المقوقس: والّذى يحلف به، لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد؛ ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النّيل لم يجيبونا بعد اليوم، إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم. ثم ردّ رسله إلى المسلمين، أن ابعثوا إلينا رسلا منكم، نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه ان يكون فيه صلاح لنا ولكم.

فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصّامت، وأمره أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلّا إلى إحدى هذه الثّلاث خصال.

فلمّا دخلوا على المقوقس تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود. وقدّموا غيره يكلّمنى. فقالوا جميعا:

إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا، والمقدّم

ص: 292

علينا، وإنّما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دونتا بما أمره به، وأمرنا ألّا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنّما ينبغى أن يكون دونكم.

قالوا: إنّه وإن كان أسود كما ترى، فإنّه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السّواد فينا.

فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود وكلّمنى برفق، فإنّى أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علىّ ازددت [1] لذلك هيبة، فتقدّم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابى ألف رجل كلّهم أشدّ سوادا منى، وأفظع منظرا؛ ولو سمعتهم ورأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابى، وإنّى بحمد الله مع ذلك ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى؛ وذلك إنّما رغبتنا وهمّتنا الجهاد فى سبيل الله واتّباع رضوانه، وليس غزونا ممّن حارب الله لرغبة فى دنيا ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله عز وجل أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلّا درهما؛ لأنّ غاية أحدنا من الدّنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره [2] ، وشملة يلتحفها. فإن كان أحدنا لا يملك إلّا ذلك كفاه؛ وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الّذى بيده، وبلّغه ما كان فى الدّنيا؛ لأنّ الدّنيا ليست بنعيم، ورخاؤها ليس برخاء، وإنّما النّعيم والرّخاء فى الآخرة؛

[1] ك: «أردت» ، تخريف.

[2]

ك: «ليله ونهاره» .

ص: 293

وبذلك أمرنا ربّنا عز وجل، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألّا تكون همّة أحدنا من الدّنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله فى رضا ربّه، وجهاد عدوّه.

فلمّا سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرّجل قطّ؟ لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندى من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلّها.

ثم أقبل على عبادة فقال: أيّها الرجل الصّالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من كان إلّا لحبّهم الدّنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الرّوم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنّجدة والشّدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنّكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم فى ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم، وقلّة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، تقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.

فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الرّوم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم؛ فلعمرى ما هذا بالذى تخوّفنا به، ولا بالّذى يكسرنا عمّا نحن

ص: 294

فيه؛ إن كان ما قلتم حقا؛ فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالهم، وأشدّ تحريضا عليهم؛ لأنّ ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه؛ إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنّته، وما من شىء أقرّ لأعيننا ولا أحبّ إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين:

إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا؛ وإنّها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإنّ الله عز وجل قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ

[1]

.

وما منّا رجل إلّا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشّهادة وألّا يردّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منّا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ منّا ربّه أهله وولده؛ وإنّما همّنا ما أمامنا.

وأمّا قولك: إنّا فى ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السّعة؛ لو كانت الدّنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر ممّا نحن عليه، فانظر الّذى تريد فبيّنه لنا؛ فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك بالباطل؛ بذلك أمرنى أميرى، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا.

إمّا أجبتم إلى الإسلام الّذى هو الدّين الّذى لا يقبل الله تعالى

[1] سورة البقرة 249.

ص: 295

غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته. أمرنا الله أن نقاتل من من خالفه ورغب عنه؛ حتى يدخل فيه، فإن فعل فإنّ له مالنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التّعرض لكم، وإن أبيتم إلّا الجزية، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كلّ عام أبدا، ما بقينا وبقيتم، ونقاتل من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم وبلادكم وأموالكم، ونقوم بذلك إن كنتم فى ذمّتنا، وكان لكم به عهد الله إلينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسّيف حتى نموت عن آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم، هذا ديننا الّذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.

فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلّا أن تتّخذونا خولا أو نكون لكم عبيدا ما كانت الدّنيا.

فقال عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. قال: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال؟ فرفع عبادة يديه فقال: لا وربّ هذه السّماء، وربّ هذه الأرض، وربّنا وربّ كلّ شىء، مالكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.

فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما تريدون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذّلّ! أمّا ما أرادوا من

ص: 296

دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا؛ أن نترك دين المسيح بن مريم، وندخل فى دين غيره ولا نعرفه. وأمّا ما أرادوا من أن يسبونا ويجعلونا عبيدا أبدا، فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منّا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.

فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نعطيكم فى مرّتكم هذه ما تمنّيتم وتنصرفون.

فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثّلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين.

قالوا: وأىّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم؛ أمّا دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنّكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثّالثة. قالوا:

أفنكون لهم عبيدا أبدا! قال: نعم، تكونون عبيدا مسلّطين فى بلادكم، آمنين على أنفسكم، وأموالكم وذراريّكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيدا تباعون وتمزّقون فى البلاد، مستعبدين أبدا فى البلاد. أنتم وأهلوكم وذراريّكم.

قالوا: فالموت أهون علينا. فأمروا بقطع الجسر بين الفسطاط والجيزة، وبالقصر من القبط والرّوم جمع كثير، فألحّ عليهم المسلمون عند ذلك بالقتال؛ حتى ظفروا بمن فى القصر، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسروا من أسروا، وانحازت السّفن كلّها إلى الجزيرة.

هذا والمسلمون قد أحدق بهم الماء من كلّ وجه، لا يقدرون على أن

ص: 297

يتقدّموا نحو الصّعيد ولا غيره من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم؟ ما تنتظرون؟ فو الله لنجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لنجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا؛ فعند ذلك أذعنوا إلى الجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه.

فأرسل المقوقس إلى عمرو يقول له: إنّى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التى أرسلت إلىّ بها، فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الرّوم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم، وحبّى صلاحهم، ورجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت فى نفر من أصحابى وأصحابك؛ فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك لنا جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنّا عليه.

فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك فقالوا: لا تجبهم إلى شىء من الصّلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلّها لنا فيئا وغنيمة كما صار القصر لنا وما فيه.

فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثّلاث الّتى عهد إلىّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.

فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين عن كلّ نفس: شريفهم

ص: 298

ووضيعهم وضعيفهم، ومن بلغ الحلم منهم، ليس على الشّيخ الفانى، ولا على الصّغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا النساء شىء، وعلى أنّ للمسلمين عليهم النّزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين، أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيّام، مفترض ذلك عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرّض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كلّه على القبط خاصّة، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصّة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليه الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدّة، فكان جميع من أحصى منهم بمصر أكثر من ستّة ألاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كلّ سنة.

وروى عن يحيى بن ميمون الحضرمىّ، قال: بلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف.

قال: وشرط المقوقس للرّوم أن يخيّروا، فمن أحبّ منهم أن يقيم على مثل هذا المقام أقام على ذلك لازما له، مفترضا عليه ممّن أقام بالإسكندرّية، وما حولها من أرض مصر كلّها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الرّوم خرج، وعلى أنّ للمقوقس الخيار فى الرّوم خاصّة، حتى يكتب إلى ملك الرّوم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا عليه، وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كلّه.

فكتب إليه يقبّح رأيه ويعجّزه ويردّ عليه ما فعل، وأمره بقتال

ص: 299

المسلمين بالرّوم إن أبى القبط القتال، وكتب إلى جماعة الرّوم بمثل ذلك.

فجمع المقوقس الرّوم وقال: اعلموا يا معشر الرّوم أنّى والله لا أخرج ممّا دخلت فيه، بعد أن ذكر لهم شجاعة العرب وصبرهم وجلدهم وحبّهم الموت وغير ذلك من حالهم، ثم قال: والله إنّى لأعلم أنّكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنّون أن لو كنتم أطعتمونى؛ وذلك أنّى قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك، ولم يره ولم يعرفه. أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السّنة! ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت، وعجزّنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الرّوم ألّا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك، أو تظفر بهم، ولم أكن أخرج ممّا دخلت فيه، وعاقدتك عليه؛ وإنّما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، فقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض.

وأمّا الرّوم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال، قال عمرو: وما هى؟ قال:

لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم، وألزمنى ما ألزمتهم، وقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم مقيمون لك عل ما تحبّ.

وأما الثانية، فإن سألك الرّوم بعد اليوم أن تصالحهم

ص: 300

فلا تصالحهم حتّى تجعلهم فيئا وعبيدا؛ فإنّهم أهل ذلك؛ فإنّى نصحتهم فاستغشّونى [1] .

وأمّا الثّالثة: فأطلب إليك إن أنا متّ أن تأمرهم [2] يدفنونى فى أبى يحنّس بالإسكندريّة.

فأجابه عمرو إلى ما طلب على أن يقيموا له الجسرين جميعا، والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندريّة، ويقيموا لهم الأنزال والضّيافة والأسواق، ففعلوا ذلك، وسارت القبط أعوانا للمسلمين على الرّوم.

[1] ابن عبد الحكم 73: «فاستغشوا نصحى» .

[2]

ص: «إن تأمرهم يدفنى» .

ص: 301