الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت
وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية قال [1] : وأرسل المقوقس إلى عمرو يقول: إنّكم قد ولجتم بلادنا [2] ، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم فى أرضنا؛ وإنّما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّتكم الرّوم ومعهم من العدد والسّلاح، وقد أحاط بكم هذا النّيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع منهم؛ فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ، وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الرّوم؛ فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلّكم أن تندموا
…
ونحو ذلك من الكلام.
فلما أتت رسول المقوقس عمرا حبسهم عنده يومين وليلتين؛ حتى خاف عليهم المقوقس وقال لأصحابه: أترون أنّهم يقتلون الرّسل ويحبسونهم، ويستحلّون ذلك فى دينهم؟ وإنّما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين، ثم ردّهم عمرو. وأجابه مع رسله: إنّه ليس بينى وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إمّا أن دخلتم فى الإسلام وكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم
[1] ابن عبد الحكم 65.
[2]
ابن عبد الحكم: «فى بلادنا» .
فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون. وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين.
فلمّا جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتم هؤلاء؟
قالوا: رأينا قوما، الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتّواضع أحبّ إليهم من الرّفعة، ليس لأحدهم فى الدّنيا رغبة ولا نهمة؛ إنّما جلوسهم على التّراب، وأكلهم على الرّكب، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السّيّد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصّلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشّعون فى صلاتهم.
فقال المقوقس: والّذى يحلف به، لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد؛ ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النّيل لم يجيبونا بعد اليوم، إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم. ثم ردّ رسله إلى المسلمين، أن ابعثوا إلينا رسلا منكم، نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه ان يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصّامت، وأمره أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلّا إلى إحدى هذه الثّلاث خصال.
فلمّا دخلوا على المقوقس تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود. وقدّموا غيره يكلّمنى. فقالوا جميعا:
إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا، والمقدّم
علينا، وإنّما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دونتا بما أمره به، وأمرنا ألّا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنّما ينبغى أن يكون دونكم.
قالوا: إنّه وإن كان أسود كما ترى، فإنّه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السّواد فينا.
فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود وكلّمنى برفق، فإنّى أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علىّ ازددت [1] لذلك هيبة، فتقدّم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابى ألف رجل كلّهم أشدّ سوادا منى، وأفظع منظرا؛ ولو سمعتهم ورأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابى، وإنّى بحمد الله مع ذلك ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى؛ وذلك إنّما رغبتنا وهمّتنا الجهاد فى سبيل الله واتّباع رضوانه، وليس غزونا ممّن حارب الله لرغبة فى دنيا ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله عز وجل أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلّا درهما؛ لأنّ غاية أحدنا من الدّنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره [2] ، وشملة يلتحفها. فإن كان أحدنا لا يملك إلّا ذلك كفاه؛ وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الّذى بيده، وبلّغه ما كان فى الدّنيا؛ لأنّ الدّنيا ليست بنعيم، ورخاؤها ليس برخاء، وإنّما النّعيم والرّخاء فى الآخرة؛
[1] ك: «أردت» ، تخريف.
[2]
ك: «ليله ونهاره» .
وبذلك أمرنا ربّنا عز وجل، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألّا تكون همّة أحدنا من الدّنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله فى رضا ربّه، وجهاد عدوّه.
فلمّا سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرّجل قطّ؟ لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندى من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلّها.
ثم أقبل على عبادة فقال: أيّها الرجل الصّالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من كان إلّا لحبّهم الدّنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الرّوم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنّجدة والشّدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنّكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم فى ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم، وقلّة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، تقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.
فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الرّوم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم؛ فلعمرى ما هذا بالذى تخوّفنا به، ولا بالّذى يكسرنا عمّا نحن
فيه؛ إن كان ما قلتم حقا؛ فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالهم، وأشدّ تحريضا عليهم؛ لأنّ ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه؛ إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنّته، وما من شىء أقرّ لأعيننا ولا أحبّ إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين:
إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا؛ وإنّها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإنّ الله عز وجل قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
[1]
.
وما منّا رجل إلّا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشّهادة وألّا يردّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منّا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ منّا ربّه أهله وولده؛ وإنّما همّنا ما أمامنا.
وأمّا قولك: إنّا فى ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السّعة؛ لو كانت الدّنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر ممّا نحن عليه، فانظر الّذى تريد فبيّنه لنا؛ فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك بالباطل؛ بذلك أمرنى أميرى، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا.
إمّا أجبتم إلى الإسلام الّذى هو الدّين الّذى لا يقبل الله تعالى
[1] سورة البقرة 249.
غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته. أمرنا الله أن نقاتل من من خالفه ورغب عنه؛ حتى يدخل فيه، فإن فعل فإنّ له مالنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التّعرض لكم، وإن أبيتم إلّا الجزية، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كلّ عام أبدا، ما بقينا وبقيتم، ونقاتل من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم وبلادكم وأموالكم، ونقوم بذلك إن كنتم فى ذمّتنا، وكان لكم به عهد الله إلينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسّيف حتى نموت عن آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم، هذا ديننا الّذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.
فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلّا أن تتّخذونا خولا أو نكون لكم عبيدا ما كانت الدّنيا.
فقال عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. قال: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال؟ فرفع عبادة يديه فقال: لا وربّ هذه السّماء، وربّ هذه الأرض، وربّنا وربّ كلّ شىء، مالكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما تريدون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذّلّ! أمّا ما أرادوا من
دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا؛ أن نترك دين المسيح بن مريم، وندخل فى دين غيره ولا نعرفه. وأمّا ما أرادوا من أن يسبونا ويجعلونا عبيدا أبدا، فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منّا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نعطيكم فى مرّتكم هذه ما تمنّيتم وتنصرفون.
فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثّلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين.
قالوا: وأىّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم؛ أمّا دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنّكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثّالثة. قالوا:
أفنكون لهم عبيدا أبدا! قال: نعم، تكونون عبيدا مسلّطين فى بلادكم، آمنين على أنفسكم، وأموالكم وذراريّكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيدا تباعون وتمزّقون فى البلاد، مستعبدين أبدا فى البلاد. أنتم وأهلوكم وذراريّكم.
قالوا: فالموت أهون علينا. فأمروا بقطع الجسر بين الفسطاط والجيزة، وبالقصر من القبط والرّوم جمع كثير، فألحّ عليهم المسلمون عند ذلك بالقتال؛ حتى ظفروا بمن فى القصر، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسروا من أسروا، وانحازت السّفن كلّها إلى الجزيرة.
هذا والمسلمون قد أحدق بهم الماء من كلّ وجه، لا يقدرون على أن
يتقدّموا نحو الصّعيد ولا غيره من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم؟ ما تنتظرون؟ فو الله لنجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لنجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا؛ فعند ذلك أذعنوا إلى الجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه.
فأرسل المقوقس إلى عمرو يقول له: إنّى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التى أرسلت إلىّ بها، فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الرّوم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم، وحبّى صلاحهم، ورجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت فى نفر من أصحابى وأصحابك؛ فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك لنا جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنّا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك فقالوا: لا تجبهم إلى شىء من الصّلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلّها لنا فيئا وغنيمة كما صار القصر لنا وما فيه.
فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثّلاث الّتى عهد إلىّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.
فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين عن كلّ نفس: شريفهم
ووضيعهم وضعيفهم، ومن بلغ الحلم منهم، ليس على الشّيخ الفانى، ولا على الصّغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا النساء شىء، وعلى أنّ للمسلمين عليهم النّزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين، أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيّام، مفترض ذلك عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرّض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كلّه على القبط خاصّة، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصّة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليه الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدّة، فكان جميع من أحصى منهم بمصر أكثر من ستّة ألاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كلّ سنة.
وروى عن يحيى بن ميمون الحضرمىّ، قال: بلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف.
قال: وشرط المقوقس للرّوم أن يخيّروا، فمن أحبّ منهم أن يقيم على مثل هذا المقام أقام على ذلك لازما له، مفترضا عليه ممّن أقام بالإسكندرّية، وما حولها من أرض مصر كلّها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الرّوم خرج، وعلى أنّ للمقوقس الخيار فى الرّوم خاصّة، حتى يكتب إلى ملك الرّوم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا عليه، وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كلّه.
فكتب إليه يقبّح رأيه ويعجّزه ويردّ عليه ما فعل، وأمره بقتال
المسلمين بالرّوم إن أبى القبط القتال، وكتب إلى جماعة الرّوم بمثل ذلك.
فجمع المقوقس الرّوم وقال: اعلموا يا معشر الرّوم أنّى والله لا أخرج ممّا دخلت فيه، بعد أن ذكر لهم شجاعة العرب وصبرهم وجلدهم وحبّهم الموت وغير ذلك من حالهم، ثم قال: والله إنّى لأعلم أنّكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنّون أن لو كنتم أطعتمونى؛ وذلك أنّى قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك، ولم يره ولم يعرفه. أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السّنة! ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت، وعجزّنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الرّوم ألّا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك، أو تظفر بهم، ولم أكن أخرج ممّا دخلت فيه، وعاقدتك عليه؛ وإنّما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، فقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض.
وأمّا الرّوم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال، قال عمرو: وما هى؟ قال:
لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم، وألزمنى ما ألزمتهم، وقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم مقيمون لك عل ما تحبّ.
وأما الثانية، فإن سألك الرّوم بعد اليوم أن تصالحهم
فلا تصالحهم حتّى تجعلهم فيئا وعبيدا؛ فإنّهم أهل ذلك؛ فإنّى نصحتهم فاستغشّونى [1] .
وأمّا الثّالثة: فأطلب إليك إن أنا متّ أن تأمرهم [2] يدفنونى فى أبى يحنّس بالإسكندريّة.
فأجابه عمرو إلى ما طلب على أن يقيموا له الجسرين جميعا، والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندريّة، ويقيموا لهم الأنزال والضّيافة والأسواق، ففعلوا ذلك، وسارت القبط أعوانا للمسلمين على الرّوم.