الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قصة الشورى
قال: وقيل [1] لعمر: لو استخلفت يا أمير المؤمنين؟ قال: لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى [2] : سمعتك وسمعت نبيّك يقول: إنّه أمين هذه الأمّة، ولو كان سالم مولى أبى حذيفة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى: سمعت نبيّك يقول: «إنّ سالما شديد الحبّ لله» .
فقال له رجل: أدلّك على عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله! ما أردت بهذا ويحك! كيف أستخلف من عجز عن طلاق امرأته! لا أرب لنا فى أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتى، إن كان خيرا قد أصبنا منه، وإن كان شرّا قد صرف عنّا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمّة محمّد! أما لقد جهدت نفسى، وحرمت أهلى، وإن نجوت كفافا لا أجر ولا وزر، إنّى لسعيد. أنظر فإن استخلفت، فقد استخلف من هو خير منّى، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى، ولن يضيّع الله دينه.
فخرجوا، ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهدا! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتى أن أنظر فأولّى رجلا أمركم، وهو أحراكم أن يحملكم على الحقّ- وأشار إلى علىّ- فرهقتنى غشية،
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 34 وما بعدها.
[2]
ك: «إن يسألنى» .
فرأيت رجلا دخل الجنّة، فجعل يقطف كل غضّة ويانعة فيضمه إليه، ويصيّره تحته، فعلمت أنّ الله بالغ أمره، فما أردت أن أتحمّلها حيّا وميّتا.
عليكم هؤلاء الرّهط الّذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنّهم من أهل الجنّة، وهم: علىّ وعثمان وعبد الرّحمن وسعد، والزّبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فلتختاروا منهم رجلا، فإذا ولّوا واليا فأحسنوا موازرته وأعينوه، وخرجوا.
فقال العبّاس لعلىّ: لا تدخل معهم، إنّى أكره الخلاف، قال:
إذن ترى ما تكره، فلما أصبح عمر دعا عليّا، وعثمان، وسعدا، وعبد الرّحمن، والزبير، فقال: إنّى نظرت فوجدتكم رؤساء النّاس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض. إنّى لا أخاف النّاس عليكم إن استقمتم؛ ولكنّى أخافكم فيما بينكم، فيختلف النّاس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاورا فيها. ووضع رأسه وقد نزفه الدّم، فدخلوا فتناجوا؛ حتى ارتفعت أصواتهم.
فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد، فسمعه عمر: فانتبه، وقال: أعرضوا عن هذا، فإذا أنا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالنّاس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شىء له من الأمر، وطلحة شريككم فى الأمر، فإن قدم فى الأيّام الثّلاثة فأحضروه، وإن مضت الأيّام الثّلاثة قبل قدومه فامضوا
لأمركم. ومن لى بطلحة؟ فقال سعد بن أبى وقّاص: أنا لك به، ولا يخالف إن شاء الله تعالى.
فقال عمر رضى الله عنه: أرجو ألّا يخالف إن شاء الله، وما أظن أن يلى هذا الأمر إلا أحد هذين الرّجلين: علىّ أو عثمان.
فإن ولّى عثمان، فرجل فيه لين، وإن ولّى علىّ ففيه دعابة [1] وأحر به أن يحملهم على الحقّ، وإن تولّوا سعدا فأهلها هو وإلّا فليستعن به الوالى؛ فإنّى لم أعزله عن ضعف ولا جناية، ونعم ذو الرأى عبد الرّحمن ابن عوف! فاسمعوا منه.
وقال لأبى طلحة الأنصارى: يا أبا طلحة، إنّ الله تعالى طالما أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرّهط حتّى يختاروا رجلا منهم.
وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتمونى فى حفرتى، فاجمع هؤلاء الرّهط فى بيت حتّى يختاروا رجلا.
وقال لصهيب: صلّ بالنّاس ثلاثة أيام، وأدخل هؤلاء الرّهط بيتا، وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسّيف، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، وإن رضى اثنان رجلا، واثنان رجلا، فحكّموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه النّاس، فخرجوا، فقال علىّ لقوم معه من بنى هاشم: ان أطع فيكم قومكم لم تؤمّروا أبدا، وتلقّاه
[1] ك: «رعاية» تحريف.
عمّه العبّاس فقال: عدلت عنّا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بى عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن، فسعد لا يخالف ابن عمّه، وعبد الرّحمن صهر عثمان لا يختلفان فيولّيها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معى لم ينفعانى.
فقال له العبّاس: لم أدفعك فى شىء إلّا رجعت إلىّ مستأخرا لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سمّاك عمر فى الشّورى ألّا تدخل معهم فأبيت.
احفظ عنّى واحدة، كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرّهط؛ فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا حتّى يقوم به لنا غيرنا. وايم الله لا تناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير.
فلمّا مات عمر ودفن، جمع المقداد أهل الشّورى فى بيت المسور ابن مخرمة، وقيل: فى بيت المال. وقيل: فى حجرة عائشة بإذنها، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم.
وجاء عمر بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنّا فى أهل الشّورى! فتنافس القوم فى الأمر وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة:
أنا كنت لأن تدفعوها أخوف منّى لأن تنافسوها، [لا][1] والّذى
[1] من ص.
ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة الّتى أمر، ثم أجلس فى بيتى فأنظر ما تصنعون.
فقال عبد الرّحمن: أيّكم يخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن نولّيها أفضلكم، فلم يجبه أحد، فقال: أنا أنخلع منها.
قال عثمان: أنا أوّل من رضى، قال القوم: قد رضينا، وعلىّ ساكت، فقال ما تقول أبا الحسن؟ قال: أعطنى موثقا لتؤثرنّ الحقّ ولا تتّبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم لرحمه، ولا تألوا [الأمّة، فقال: اعطونى مواثقكم على أن تكونوا معى على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلىّ ميثاق الله ألّا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين][1] قال: فأخذ منهم ميثاقا، وأعطاهم مثله.
فقال لعلىّ: تقول: إنّى أحقّ من حضر هذا الأمر، لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وسابقتك وحسن أثرك فى الدّين، ولم تبعد؛ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك ولم تحضر إلى هؤلاء الرّهط، من تراه أحقّ به؟ قال: عثمان، وخلا بعثمان فقال:
تقول: شيخ من بنى عبد مناف وصهر رسول الله وابن عمه ولى سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عنّى؟ ولكن لو لم تحضر، أىّ هؤلاء أحقّ به؟ قال علىّ. ولقى علىّ سعدا فقال: اتّقوا الله الّذى تساءلون به والأرحام، أسألك برحم ابنى هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم [وبرحم عمّى حمزة ألا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا لعثمان علىّ. ودار عبد الرحمن ليلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف النّاس
[1] من ص.
يشاورهم؛ حتّى إذا كانت اللّيلة الّتى صبيحتها يستكمل الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق فى هذه اللّيلة كثير غمض، انطلق فادع الزّبير وسعدا؛ فدعاهما، فبدأ بالزّبير فقال له: خلّ عبد بنى مناف، وهذا الأمر، قال: نصيبى لعلىّ.
وقال لسعد: اجعل نصيبك لى، فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلىّ أحبّ إلىّ، أيّها الرّجل، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا.
فقال: قد خلعت نفسى على أن اختار، ولو لم أفعل لم أردها، إنّى رأيت روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل ما رأيت أكرم منه، فمرّ كأنّه سهم لم يلتفت إلى شىء منها؛ حتّى قطعها، لم يعرّج. ودخل بعير يتلوه، فاتّبع أثره حتّى خرج منها، ثم دخل فحل عبقرىّ يجرّ خطامه ومضى قصد الأوّلين، ثم دخل بعير رابع فوقع فى الرّوضة، ولا والله لا أكون الراتع الرابع، ولا يقوم مقام أبى بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى النّاس عنه.
قال: وأرسل المسور، فاستدعى عليّا فناجاه طويلا وهو لا يشكّ أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتّى فرّق بينهما الصّبح، فلمّا صلّوا الصبح جمع الرّهط، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السّابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، فقال:
أيّها النّاس، إنّ النّاس قد أحبّوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، وقد علموا من أميرهم، فأشيروا علىّ.
[1] ك: «قطعتها» .
فقال عمّار بن ياسر: إذا أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليّا.
فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار إن بايعت عليّا، قلنا:
سمعنا وأطعنا.
وقال ابن أبى سرح: إذا أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان.
فقال عبد الله بن أبى ربيعة: صدقت، إن بايعت عثمان قلنا:
سمعنا وأطعنا.
فشتم عمّار ابن أبى سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلّم بنو هاشم وبنو أميّة، فقال عمّار: أيّها النّاس، إنّ الله أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم! فقال رجل من بنى مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبى وقّاص: يا عبد الرّحمن. افرغ قبل أن يفتتن النّاس، فقال عبد الرحمن: إنّى قد نظرت وشاورت، فلا تجعلنّ فيها أيّها الرّهط على أنفسكم سبيلا، ودعا عليّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمى وطاقتى.
ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلىّ، فقال: نعم، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذاك فى رقبة عثمان، فبايعه.
وقيل: وخرج عبد الرحمن بن عوف وعليه عمامته الّتى عمّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلّدا سيفه؛ حتّى ركب المنبر،
فوقف وقوفا طويلا، ثم دعا دعاء لا يسمعه النّاس، ثم تكلّم فقال:
أيّها النّاس، إنّى قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرّجلين: إمّا علىّ، وإمّا عثمان.
فقم إلىّ يا علىّ، فقام إليه فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم، وفعل أبى بكر وعمر؟ قال: اللهمّ لا، ولكن على جهدى من ذاك وطاقتى.
قال: فأرسل يده ثمّ نادى: قم إلىّ يا عثمان، فأخذ بيده، وهو فى موقف علىّ الّذى كان فيه، فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر وعمر؟ فقال: اللهمّ نعم، قال:
فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد ثلاثا، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان، قال: فازدحم النّاس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعد النبىّ صلى الله عليه وسلم من المنبر، وأقعد عثمان على الدّرجة الثّانية، فجعل النّاس يبايعونه، وتلكّأ علىّ.
فقال عبد الرّحمن: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
[1]
.
فرجع علىّ يشقّ النّاس حتى بايع عثمان وهو يقول: خدعة، وأىّ خدعة!
[1] سورة الفتح 10.
وقيل: لمّا بايع عبد الرحمن عثمان قال علىّ: ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم [هو][1] فى شأن.
فقال عبد الرحمن: يا علىّ، لا تجعل على نفسك حجّة ولا سبيلا، فخرج علىّ وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون.
فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين، قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين.
وقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، إنّى لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا، لا أقول ولا أعلم أنّ رجلا أقضى بالعدل، ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعوانا عليه! فقال عبد الرحمن: يا مقداد، اتّق الله؛ فإنّى خائف عليك الفتنة.
فقال رجل للمقداد: رحمك الله! من أهل هذا البيت؟ ومن هذا الرّجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطّلب، والرجل علىّ بن أبى طالب.
فقال علىّ: إنّ النّاس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر بينها
[1] من ص.
فتقول: إن ولّى عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وإن كانت فى غيرهم تداولتموها بينكم.
قال: وقدم طلحة فى اليوم الرّابع الذى بويع فيه عثمان، فقيل له:
بايعوا لعثمان، فقال: كلّ قريش راض به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك، إن أبيت رددتها.
قال: أتردّها؟ قال: نعم. ثم قال أكلّ النّاس بايعوك؟ قال، نعم.
قال: قد رضيت، لا أرغب عمّا أجمعوا عليه، وبايعه.
حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] ، عن عمرو بن ميمون.
وفيه زيادة عن الطّبرىّ.
وروى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله فى قصّة الشّورى، عن المسور بن مخرمة نحو ما تقدّم؛ الّا أنّه ذكر زيادات ذكرنا بعضها فى أثناء هذه القصّة، ونذكر بقيّتها الآن.
قال [2] : لما دفن رضى الله عنه جمعهم عبد الرحمن وخطبهم، وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق.
فتكلّم عثمان رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى اتخذ محمدا نبيّا وبعثه رسولا، وصدقه وعده، ووهب له نصره على كلّ من بعد نسبا، أو قرب رحما، صلّى الله عليه، جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين، فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم، عند تفرّق الأهواء، ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منّا، ولا يدخل
[1] الكامل لابن الأثير 3: 34- 40.
[2]
الطبرى 4: 234 وما بعدها.
علينا غيرنا الّا من سفه الحقّ، ونكل عن القصد، وأحر [1] بها يابن عوف أن تترك، وأجّدر بها [2] أن تكون إن خولف أمرك، وترك دعاوءك، فأنا مجيب وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم، وأستغفر الله لى ولكم.
ثمّ تكلّم الزبير بعده، فقال: أمّا بعد، فإنّ داعى الله لا يجهل ومجيبه لا يخذل، عند تفرّق الأهواء، ولىّ الأعناق، ولن يقصّر عما قلت إلّا غوىّ، ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقىّ، ولولا حدود لله فرضت، وفرائض لله حدّت، تراح على أهلها، وتحيا لا تموت؛ لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدّعوة، وإظهار السّنّة، لئلّا نموت موتة [3] عميّة، ولا نعمى عمى جاهليّة، فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم، وأستغفر الله لى ولكم.
ثم تكلّم سعد فقال. الحمد لله بديئا، بمحمّد صلى الله عليه وسلم أنارت الطّرق، واستقامت السّبل، وظهر الحقّ، ومات كلّ باطل، إيّاكم أيّها النّفر وقول الزّور، وأمنيّة أهل الغرور! فقد سلبت الأمانىّ قوما قبلكم، ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذوا الله عدوّا، ولعنهم لعنا كثيرا، قال الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
…
[4]
[1] فى الأصلين: «وأحرها» ، وما أثبته من الطبرى.
[2]
الطبرى: «وأحذر بها» .
[3]
الطبرى: «ميتة» .
[4]
سورة المائدة 78، 79.
إلى قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
إنّى نكبت قرنى [1] وأخذت سهمى الفالج [2] ، وأخذت لطلحة بن ابن عبيد الله ما ارتضيت لنفسى، فأنّا كفيل به، وبما أعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يابن عوف، بجهد النّفس، وقصد النّصح، وعلى الله قصد السبيل وإليه الرّجوع، واستغفر الله لى ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم.
ثم تكلّم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى بعث محمدا منّا نبيّا، وبعثه إلينا رسولا، فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب؛ لنا حقّ إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل، ولو طال السّرى. لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتّى نموت، لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ، وصلة رحم، ولا قوّة الّا بالله.
اسمعوا كلامى، وعوا منطقى، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجتمع تنتضى فيه السّيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضّلالة، وشيعة لأهل الجهالة ثم قال [3] :
فإن تك جاسم هلكت فإنّى
…
بما فعلت بنو عبد بن ضخم
[1] كذا فى الطبرى. والقرن هنا الجعبة، ونكب قرنه، أى نثر ما فيه من السهام.
وانظر اللسان
[2]
الفالج: المنتصر.
[3]
الطبرى: «ثم أنشأ يقول» .
مطيع فى الهواجر كلّ عىّ
…
بصير بالنّوى من كلّ نجم
فقال عبد الرحمن: أيّكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر، ويولّيه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه. وذكر نحو ما تقدم.
فلنرجع إلى بقيّة أخبار عمر رضى الله عنه.
قال: ومات عمر لأربع بقين من ذى الحجّة، قاله الواقدىّ.
وقال غيره: يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه، وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجّة، سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد هلال المحرّم، سنة أربع وعشرين فى حجرة عائشة رضى الله عنها، ورأسه قبالة كتفى أبى بكر رضى الله عنهما، وصلّى عليه صهيب الرّومىّ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب.