الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه رضى الله عنه
غير ما تقدّم قد ذكرنا فيما تقدّم من كتابنا هذا فى هذا السّفر وما قبله نبذة من أخباره، ولمعة من آثاره، وطرفا من مآثره السنيّة، وجملة من فضائله التى هى بجزيل الخيرات مليّة، وأحببنا أن نورد فى هذا الموضع نبذة أخرى غير ما قدّمنا، ونختم هذا الفصل بشىء من مناقبه كما بدأنا، ولا نشترط الاستيعاب لمناقبه ومآثره لتوفّرها، ولا الحصر لفضائله الجزيلة لتعدّدها وتكرّرها، بل نورد من كل نوع منها طرفا يحتوى على خصال منيعة، وأخلاق شريفة، ويتحقّق سامعه أنّه لو أنفق ملء أحد ذهبا ما بلغ مدّه ولا نصيفه.
كان رضى الله تعالى عنه قد تقلّل من الدنيا جهد طاقته، واقتصر منها على بعض ما يسدّ به بعض خلّته وفاقته، وتجنّب أموال المسلمين جهده، وأنفق فى سبيل الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عنده؛ نطق بفضله القرآن، جاهد فى دين الله فأذّلّ الله له وبه أهل الشّرك والطّغيان، وشمّر عن السّاعد فى قتال أهل الرّدّة حين استذلّهم الشيطان، وأقدم على حربهم بنفسه وجيوشه حين اشرأبّ النفاق ولمعت بوارقه، وناضلهم بكتبه وكتائبه حين ظهر الكفر ونشرت خوافقه، فأخمد الله تعالى به ما كان قد اضطرم من نيران الرّدة، وأفاء تلك القبائل التى كانت لحرب الإسلام مستعدة؛ إلّا من استمرّ منهم على كفره، وما نزع عن شرّه ومكره، وأبى إلّا جحود هذا الدّين
وقتال شعبه، ونفر عن الرّجوع والانضمام إلى حزبه؛ فإن الله تعالى قتله شرّ قتلة، وأباح للمسلمين ماله وأهله ونسله.
روى أنّه لما ارتدت العرب، خرج أبو بكر رضى الله عنه شاهرا سيفه إلى ذى القصّة، فجاءه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فأخذ بزمام راحلته، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شم سيفك [1] لا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام
، وكان له رضى الله عنه بيت مال بالسّنح، وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة؛ فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟
قال: لا، فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين، فلا يبقى فيه شىء، فلمّا انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه فى داره.
ولما توفّى جمع عمر الأمناء، وفتح بيت المال فلم يجد فيه شيئا غير دينار سقط من غرارة، فترحّموا عليه.
وفى خلافته رضى الله عنه: انفتح معدن بنى سليم، فكان يسوّى فى قسمته بين السّابقين الأوّلين والمتأخّرين فى الإسلام، وبين الحرّ والعبد، والذّكر والأنثى. فقيل له: ليقدّم أهل السّبق على قدر منازلهم. فقال: إنّما أسلموا لله، ووجب أجرهم عليه، يوفّيهم ذلك فى الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.
وكان يشترى الأكسية ويفرّقها فى الأرامل فى الشتاء.
قال أبو صالح الغفارىّ: كان عمر رضى الله عنه يتعهّد امرأة
[1] شم: اغمد.
عمياء فى المدينة بالليل، فيقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، ففعل ما أرادت، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر رضى الله عنه، كان يأتيها ويقضى أشغالها سرّا وهو خليفة؛ فقال:
أنت هو لعمرى! وكان منزل أبى بكر رضى الله عنه بالسّنح [1] عند زوجته حبيبة بنت خارجة، فأقام هناك ستة أشهر بعد ما بويع، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة، وربّما ركب فرسه، فيصلّى بالنّاس؛ فإذا صلّى العشاء رجع إلى السّنح. وكان إذا غاب صلّى بالنّاس عمر، وكان يغدو كلّ يوم إلى السّوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربّما خرج هو بنفسه فيها، وربّما رعيت له، وكان يحلب للحىّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم:
الآن لا يحلب لنا منائح [2] دارنا، فسمعها، فقال: بل لعمرى لأحلبنّها لكم، وإنى لأرجو ألا يغيّرنى ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، ثمّ تحوّل إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته. وقال: لا تصلح أمور النّاس مع التجارة، وما يصلح إلا التّفرغ لهم؛ والنظر فى شأنهم، فترك التجارة، وأنفق من مال المسلمين، ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، ويحجّ ويعتمر؛ فكان الذى فرضوا له فى كلّ سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردّوا ما عندنا من مال المسلمين، فإنّى لا أصيب من هذا المال شيئا، وإنّ أرضى الذى بكذا وكذا للمسلمين
[1] السنح، إحدى محال المدينة.
[2]
المنيحة: الناقة تدر اللبن؛ وجمعها منائح.
بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر. وقيل: إنّه قال:
انظروا كم أنفقت منذ ولّيت من بيت المال؟ فاقضوه عنّى، فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف. وقيل: إنّه قال لعائشة رضى الله عنها: أما إنّا منذ ولّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنّا قد أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فىء المسلمين إلّا هذا العبد، وهذا البعير، وهذه القطيفة، فإذا متّ فابعثى بالجميع إلى عمر؛ فلما مات بعثته إليه، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه على الأرض؛ وجعل يقول: رحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده، يكرّر ذلك، وأمر برفعه. فقال له عبد الرحمن ابن عوف: سبحان الله! تسلب عيال أبى بكر عبدا، وناضحا [1]، وشقّ قطيفة ثمنها خمسة دراهم! فلو أمرت بردّها عليهم. فقال:
لا، والذى بعث محمدا لا يكون هذا فى ولايتى، ولا خرج أبو بكر منه وأتقلّده أنا.
وقد قيل: إنّه رضى الله عنه، كان يأخذ من بيت المال فى كلّ يوم ثلاثة دراهم أجرة، وإنه قال لعائشة: انظرى يا بنيّة ما زاد فى مال أبيك منذ ولى هذا الأمر فردّيه على المسلمين.
فنظرت فإذا بجرد [2] قطيفة لا تساوى خمسة دراهم، ومحشّة [3] ، فجاء الرّسول إلى عمر بذلك والنّاس حوله، فبكى عمر، وبكى النّاس؛ وقال: رحمك الله أبا بكر! لقد كلّفت من بعدك تعبا طويلا! فقال الناس: اردده يا أمير المؤمنين إلى أهله.
[1] الناضح: البعير الذى يستقى عليه الماء.
[2]
جرد قطيفة، قطيفة بالية.
[3]
المحشة: حديدة تحرك بها النار.
قال: كلّا، لا يخرجه من عنقه فى حياته، وأردّه إلى عنقه بعد وفاته. ثم أمر بذلك، فحمل إلى بيت المال.
وحكى أنّ زوجته اشتهت حلوا، فقال: ليس لنا ما نشترى به.
فقالت: أنا أستفضل من نفقتنا فى عدّة أيام ما نشترى به؛ قال: افعلى، ففعلت ذلك؛ فاجتمع لها فى أيام كثيرة شىء يسير، فلمّا عرّفته ذلك أخذه، فردّه فى بيت المال. وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما استفضلت فى كلّ يوم، وغرامة لبيت المال فى المدة الماضية من ملك كان له.
قيل: ولمّا حضرته الوفاة أتته عائشة رضى الله عنها وهو يعالج الموت، فتمثّلت:
لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر [1]
فنظر إليها كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك، ولكن قولى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
[2]
.
إنّى قد نحلتك حائط كذا، وفى نفسى منه! فردّيه على الميراث؛ وقال: إنّما هو أخواك وأختاك! قالت: من الثانية؟ إنّما هى أسماء. قال: ذات بطن بنت خارجه- يعنى زوجته- وكانت حاملا، فولدت أمّ كلثوم بعد موته.
وهو رضى الله عنه أوّل وال فرضت له رعيّته نفقته، وأوّل خليفة ولّى وأبوه حىّ، وأوّل من جمع القرآن بين اللّوحين بمشورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماه مصحفا، وهو أوّل من سمّى خليفة؛ رضوان الله عليه.
[1] البيت لحاتم الطائى، ديوانه 18.
[2]
سورة ق 19.