الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان من الحروب بينهم إلى أن فتحت الإسكندرية
قال [1] : واستعدّت الرّوم واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الرّوم، فيها جمع من الرّوم عظيم بالعدّة والسّلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص، ومن معه، وذلك حين أمكنه الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا لهم الطّرق، وأقاموا الجسور والأسواق، وخرج عمرو فلم يلق من الروم أحدا حتّى بلغ ترنوط، فلقى بها طائفة من الرّوم، فقاتلوه قتالا خفيفا، فهزمهم، ومضى بمن معه حتى لقى جمع الرّوم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيّام، ثم فتح الله على المسلمين، وانهزم الرّوم.
وقيل: بل لمّا انهزموا من ترنوط، بعث عمرو بن العاص شريك ابن سمىّ فى آثارهم، وكان على مقدّمة عمرو، فأدركهم شريك عند الكوم [2] ، فقاتلهم، فمن النّاس من يقول: إنّه هزمهم، ومنهم من يقول: إنّه قاتلهم إلى الكوم، فاعتصم به، وأحاطت به الرّوم، فأمر شريك أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصّدفى، وهو صاحب الفرس الأشقر الذى يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجارى، فانحطّ عليهم من الكوم، وطلبته الرّوم فلم تدركه، فأتى عمرا
فأخبره، فأقبل عمرو نحو الروم فأنهزموا، وبالفرس الأشقر [1] هذا سمّيت خوخة الأشقر الّتى بمصر؛ وذلك أنّه نفق [2] فدفنه صاحبه هناك، فسمّى المكان به.
قال: ثمّ التقى عمرو والرّوم لسليطس، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، ثم هزمهم الله [3] . ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا هناك بضعة عشر يوما، وكان ابنه عبد الله بن عمرو على المقدّمة، ففشت فيه الجراحة وصلّى عمرو بالنّاس صلاة الخوف، بكلّ طائفة ركعة وسجدتين.
ثم فتح الله على المسلمين، وقتلوا من الرّوم مقتلة عظيمة، واتّبعوهم حتّى بلغوا الإسكندرية فتحصّن بها الرّوم، وكانت عليهم حصون منيعة، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس، إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط، يمدّونهم بما احتاجوا من الأطعمة والأعلاف.
هذا ورسل ملك الرّوم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب، والأمداد تأتيهم من قبله، وكان يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندريّة كان ذلك انقطاع ملك الرّوم وهلاكهم؛ لأنّه ليس للرّوم كنائس أعظم من كنائس الإسكندريّة، ونجهّز الملك ليباشر القتال بنفسه، وأمر ألّا يتخلّف عليه أحد من الرّوم، وقال: ما بقاء
[1] ابن عبد الحكم: «الفرس الأشقر الذى يقال له: «أشقر صدف وكان لا يجارى سرعة» .
[2]
نفق، أى هلك.
[3]
بعدها فى ابن عبد الحكم: «وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو» .
الرّوم بعد الإسكندرية! فلمّا فرغ من جهازه أهلكه الله فمات وكفى الله المسلمين مؤنته.
وكان موته فى سنة تسع عشرة، فكسر الله بموته شوكة الرّوم، ورجع جمع كبير ممّن كان توجّه لإعانة أهل الإسكندرية، فاستأسدت العرب عند ذلك، وألحّت بالقتال، فقاتلوا قتالا شديدا، فبرز رجل من الروم، وبرز له مسلمة بن مخلد، فصرعه الرّومىّ وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه ليقتله حتّى حماه رجل من أصحابه، وكان مسلمة لا يقام له؛ ولكن غلبته المقادير، فشقّ ذلك على المسلمين.
وكان مسلمة ثقيل للبدن، كثير اللّحم، فاشتدّ غضب عمرو، وقال: ما بال الرّجل المستّه الّذى يشبه النّساء يتعرّض إلى مداخل الرجال ويتشبّه بهم! فغضب مسلمة من ذلك ولم يراجعه، ثم اشتدّ القتال حتّى اقتحم المسلمون حصن الإسكندريّة، وقاتلوا فيه، ثم جاشت الرّوم حتّى أخرجوهم جميعا من الحصن، إلّا أربعة، منهم عمرو ابن العاص، ومسلمة بن مخلد، فأغلقوا الحصن عليهم، والتجئوا إلى ديماس [1] من حمّامات الروم، فأنزل الرّوم روميّا يتكلّم بالعربيّة، فقال لهم: إنّكم قد سرتم أسارى فى أيدينا، فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم.
ثم قال لهم: إنّ فى أيدى أصحابكم منّا رجالا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود ونفادى بكم أصحابنا، ولا نقتلكم، فأبوا عليهم.
[1] الديماس: الحمام.
ثم قال لهم الرّومّى: فهل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم، أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله؛ على أن يبرز منّا رجل، ومنكم رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلّينا سبيلكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه.
فبرز رجل من الرّوم وقد وثقت الرّوم بنجدته وشدّته، فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: أنا أكفيك إن شاء الله.
فقال عمرو: دونك؛ فربّما فرّجها الله بك. فبرز مسلمة للرّومّى فتجاولا ساعة، ثم أعان الله مسلمة فقتله، وكبّر وكبّر أصحابه، ووفى لهم الرّوم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن، فخرجوا، والرّوم لا يدرون أن أمير القوم فيهم، ثم بلغهم ذلك، فأسفوا على ما فاتهم منه، وندم عمرو واستحبا من مقالته لمسلمة ما قال، فاستغفر له عمرو.
قال [1] : ولمّا أبطأ الفتح على عمر، كتب إلى عمرو:
أمّا بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، وأنكم تقاتلونهم منذ سنتين؛ وما ذاك إلّا لما أخذتم [2] وأحببتم من الدنيا ما أحبّ عدوّكم، وإنّ الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نيّاتهم.
وقد كنت وجّهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أنّ الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف؛ إلّا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب النّاس وحضّهم على قتال
[1] ابن عبد الحكم: 79.
[2]
ابن عبد الحكم: «أحدثتم» .
عدوّهم، ورغّبهم فى الصّبر والنّيّة، وقدّم أولئك الأربعة فى صدور النّاس، ومر النّاس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزّوال يوم الجمعة؛ فإنّها ساعة نزول الرّحمة، ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النّصر. ففعلوا ففتح الله عليهم.
قال [1] : ويقال: إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فى قتال الرّوم، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعقد له على الناس، فيكون هو الّذى يباشر القتال ويكفيكه. فقال عمرو:
ومن ذاك؟ قال: عبادة بن الصّامت. فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلمّا دنا منه أراد النّزول، فعزم عمرو عليه ألّا يفعل، وقال: ناولنى سنان رمحك، فناوله عبادة إيّاه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولّاه قتال الرّوم.
فتقدّم عبادة فصافّ [2] الرّوم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندريّة من يومه ذلك، وكان حصارهم الإسكندرية أربعة عشر شهرا، خمسة أشهر فى حياة هرقل، وتسعة أشهر بعد موته، وفتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم، سنة عشرين، وقتل من المسلمين على الإسكندرية فى طول هذه المدة اثنان وعشرون رجلا.
[1] ابن عبد الحكم 79.
[2]
كذا فى ابن عبد الحكم، وفى الأصول:«فصادف» .