الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة خمس وثلاثين
ذكر مسير من سار إلى عثمان رضى الله عنه من أهل الأمصار قال [1] : ولمّا فصل الأمراء عن المدينة، وقدموا على أمصارهم وذلك فى سنة خمس وثلاثين، وكان المنحرفون عن عثمان قد اتّعدوا يوما يخرجون فيه بالأمصار جميعا إذا سار عنها الأمراء، فلم يتهيّأ لهم ذلك. ولمّا رجع الأمراء ولم يتمّ لهم الوثوب تكاتبوا فى القدوم إلى المدينة، لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء، لتطير فى النّاس فخرج المصريّون وفيهم الرحمن بن عديس البلوىّ فى خمسمائة.
وقيل: ستّمائة، وقيل: فى ألف، وفيهم كنانة بن بشر الّليثى، وسوادان بن حمران السّكونىّ، وعليهم جميعا الغافقىّ بن حرب العكّىّ.
وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدىّ، والأشتر النّخعىّ، وزياد بن النّضر الحارثىّ، وعبد الله بن الأصمّ العامرىّ، وهم عداد أهل مصر.
وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبدىّ، وذريج ابن عبّاد العبدىّ، وبشر بن شريح القيسى، وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السّعدىّ.
[1] الطبرى 4: 340 وما بعدها، ابن الأثير 3: 77 وما بعدها.
فخرجوا جميعا فى شوّال، وأظهروا أنّهم يريدون الحجّ، فلما كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وكان هواهم فى طلحة، وتقدّم ناس من أهل الكوفة فنزلوا على الأعوص وهواهم فى الزّبير، وجاءهم ناس من أهل مصر وهواهم فى علىّ، ونزل عامّتهم بذى المروة.
فاجتمع نفر من أهل مصر وأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، وأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزّبير، واجتمعوا بهم فكلّ طردهم وأبعدهم، فعادوا إلى أصحابهم.
وقيل: إنّ عثمان لما بلغه نزولهم بذى خشب، جاء إلى علىّ وكلّمه فى ردّهم، فقال علىّ: على أىّ شىء أردّهم؟ فقال عثمان: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لى.
فركب علىّ ومحمد بن مسلمة وابو المضرّس وكلّموهم فى الرّجوع، فرجعوا، فعاد علىّ إلى عثمان برجوعهم، فسرّ بذلك.
فلمّا فارقه جاء مروان بن الحكم إلى عثمان من الغد فقال له:
تكلّم وأعلم النّاس أنّ أهل مصر رجعوا، وأنّ ما بلغهم عن أميرهم كان باطلا قبل أن يأتى النّاس من أمصارهم، ويأتيك ما لا تستطيع ردّه، ففعل عثمان، فلمّا خطب النّاس قال عمرو بن العاص: اتّق الله يا عثمان، فإنّك قد ركبت أمورا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب.
فناداه عثمان: وانّك هنالك! قملت والله جببتك، منذ عزلتك
عن العمل، فنودى من ناحية أخرى: تب إلى الله، فرفع رأسه وقال:
اللهمّ إنى أوّل تائب. وخرج عمرو بن العاص حتّى أتى فلسطين.
وفى رواية عن علقمة بن وقّاص: إنّ عمرو بن العاص قام إلى عثمان وهو يخطب، فقال: يا عثمان، إنّك قد ركبت بالنّاس النّهابير وركبوها، فتب إلى الله وليتوبوا. فالتفت إليه عثمان وقال: وإنّك لهنا يابن النابغة! ثمّ رفع يديه واستقبل القبلة وقال: أتوب إلى الله، اللهمّ أنا أوّل تائب إليك.
قال ابن الأثير الجزرىّ: وقيل [1] : إنّ عليّا لمّا رجع من عند المصريّين بعد رجوعهم أتى عثمان، فقال: تكلّم كلاما يسمعه النّاس منك، ويشهدون عليك ويشهد الله على ما فى قلبك من النّزوع والإنابة [2] ؛ فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن أن يجىء ركب آخر من الكوفة والبصرة، فتقول: يا علىّ، اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتنى قد قطعت رحمك، واستخففت بحقّك.
فخرج عثمان فخطب خطبة نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التّوبة، وقال أنا أول من اتّعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلى نزع وتاب؛ فإذا نزلت فليأتنى أشرافكم فليروا رأيهم، فو الله لئن ردّنى الحقّ عبدا لأستنّ بسّنة العبد، ولأذلّنّ ذلّ العبد، وما عن الله مذهب إلّا إليه، فو الله لأعطينّكم [3] الرضا، ولأنحّينّ مروان وذويه، ولا أحتجب عنكم.
[1] تاريخه 3: 82.
[2]
ابن الأثير: «الأمانة» .
[3]
ك: «لأعطيتم» .
فرقّ النّاس وبكوا حتّى أخضلت [1] لحاهم، وبكى هو أيضا، فلمّا نزل وجد مروان وسعيد بن العاص ونفرا من بنى أميّة فى منزله، لم يكونوا شهدوا خطبته.
فلمّا جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟
فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان: لا، بل اصمت، فإنّهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغى له أن ينزع عنها.
فقال لها مروان: ما أنت وذاك؟ فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت: مهلا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبى وهو غائب تكذب عليه! وإنّ أباك لا يستطيع أن يدفع عنه. أما والله لولا أنّه عمّه، وأنّه يناله غمّه لأخبرتك عنه بما لم أكذب. قال:
فأعرض عنها مروان، وقال: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟
قال: تكلّم، فقال: بأبى أنت وأمّى! والله لوددت أنّ مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع، فكنت أوّل من رضى بها، وأعان عليها؛ ولكنّك قلت ما قلت حين قد بلغ الحزام الطّبيين، وبلغ السّيل الزّبى، وحين أعطى الخطّة الذّليلة الذّليل، والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها، أحسن من توبة يخاف عليها، وأنت إن شئت تقرّ بالتّوبة، ولم تقرّ بالخطيئة، وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من النّاس.
فقال عثمان: فاخرج إليهم وكلّمهم، فإنّى أستحيى أنّ أكلّمهم، فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال:
[1] أخضلت: ابتلت.
ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنّكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه! إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنّا، والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منّا أمر لا يسرّكم، ولا تحمدوا غبّ رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنّا والله ما نحن بمغلوبين على ما فى أيدينا.
فرجع النّاس، وأتى بعضهم عليّا فأخبره الخبر، فأقبل على عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قال:
نعم، قال: أفحضرت مقالة مروان للنّاس؟ قال: نعم، فقال علىّ.
أى عباد الله، يا للمسلمين! إنّى إن قعدت فى بيتى قال لى: تركتنى وقرابتى قرابتى وحقّى، وإنّى إن تكلّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان، فصار سيّقة له يسوقه حيث يشاء، بعد كبر السّنّ، وصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقام مغضبا حتّى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضى منك إلّا بتحرّفك عن دينك، وعن عقلك، مثل جمل الظّعينة. يقاد حيث يشاء ربّه. والله ما مروان بذى رأى فى دينه ولا نفسه، ولا وايم الله إنّى لأراه يوردك ثمّ لا يصدرك، وما أنا عائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على رأيك.
فلمّا خرج علىّ دخلت على عثمان امرأته نائلة فقالت: قد سمعت قول علىّ لك، وليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء قال: فما أصنع؟ قالت: تتّقى الله، وتتّبع سنّة صاحبيك؛ فإنّك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند النّاس قدر ولا هيبة
ولا محبّة؛ وإنّما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علىّ فاستصلحته فانّ له قرابة [منك][1] ، وهو لا يعصى.
فأرسل عثمان إلى علىّ فلم يأته وقال: قد أعلمته أنّى غير عائد، فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، فجلس بين يدى عثمان فقال: يا ابنة الفرافصة، فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف، فأسوئ وجهك، فهى والله أنصح لى منك، فكفّ مروان.
وأتى عثمان إلى علىّ بمنزله ليلا وقال له: إنّى غير عائد، وإنّى فاعل، فقال له علىّ: بعد ما تكلّمت على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، فخرج مروان إلى النّاس يشتمهم على بابك ويؤذيهم! فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتنى وجرأت النّاس علىّ، فقال له علىّ: والله إنّى لأكثر النّاس ذبّا عنك؛ ولكنّى كلّما جئت بشئ أظنّه لك رضا، جاء مروان بأخرى، فسمعت قوله، وتركت قولى. ولم يعد علىّ يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء. فغضب غضبا شديدا حتّى دخلت الرّوايا على عثمان رضى الله عنه. والله أعلم.
[1] من ص.