الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وقعة اليرموك
قال: واجتمع [1] المسلمون باليرموك، وقد تكامل عددهم ستّة وثلاثين ألفا، منهم جيش خالد تسعة آلاف، وجيش عكرمة ستّة آلاف. وقيل فى عددهم غير ذلك. وكان الرّوم فى مائتى ألف وأربعين ألف مقاتل، منهم: ثمانون ألف مقيّد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم، وثمانون ألف راجل. وذلك فى جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وخرجوا للّقاء، فلما أحسّ المسلمون بخروجهم، قام خالد بن الوليد، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه؛ وقال: إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغى فيه الفخر. أخلصوا بجهادكم، وأريدوا الله بعملكم، وهلمّوا فلنتعاور [2] الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلّكم؛ ودعونى أميركم اليوم. فأمّروه، وهم يرون أنّ الأمر أطول مما صاروا إليه، وخرجت الروم فى تعبئة لم ير الرّاءون مثلها قطّ، وخرج خالد فى تعبئة لم يعبّئها العرب قبل ذلك، فخرج فى ستة وثلاثين كردوسا [3] إلى أربعين، وجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وجعل عليها عمرو بن العاص، وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبى سفيان، وجعل على كردوس
[1] تاريخ الطبرى 3: 394 وما بعدها. ابن الأثير 2: 281 وما بعدها.
[2]
ص: «فلتتعاون» .
[3]
الكردوس: القطعة العظيمة من الخبل.
من كراديس العراق إنسانا، وشهد اليرموك ألف رجل من الصحابة، فيهم من أهل بدر نحو المائة. فقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقلّ المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم! وإنّما تكثر الجنود بالنّصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرّجال.
ثم أمّر خالد عكرمة والقعقاع بن عمرو- وكانا مجنّبنى القلب- فأنشبا القتال، فنشب والتحم الناس، وتطارد الفرسان؛ فإنّهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة، فسأله النّاس عن الخبر، فأخبرهم بسلامة وأمداد تقبل إليهم؛ وإنّما كان قد جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره بوفاة أبى بكر سرّا، وأخبره بالّذى أخبر به الجند، فشكره وأخذ الكتاب، فجعله فى كنانته. وخرج جرجة [1] من عسكر الرّوم، وكان أحد عظمائهم، فوقف بين الصّفّين ليخرج إلى خالد، فخرج إليه، وأقام أبا عبيدة مكانه، فواقفه بين الصفّين حتى اختلفت أعناق دابّتيهما، وقد أمن كلّ منهما صاحبة.
فقال جرجة: يا خالد، اصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحرّ لا يكذب، ولا تخادعنى، فإن الكريم لا يخادع المسترسل، قد أنزل الله على نبيكم سيفا، فأعطاه لك، فلا تسلّه على قوم إلّا هزمهم الله! قال: لا، قال: ففيم سمّيت سيف الله؟ قال:
إنّ الله بعث فينا نبيّه صلى الله عليه وسلم، فدعانا، فنفرنا منه، ثم إن بعضنا صدّقه وبعضنا باعده وكذّبه، فكنت ممّن كذّبه وقاتله
[1] ص: «جرحة» .
ثم هدانى الله فتابعته؛ فقال: أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين، ودعا لى بالنصر، فسمّيت سيف الله بذلك، فأنا أشدّ المسلمين على الكافرين المشركين؛ فقال: صدقت، فأخبرنى، إلام تدعونى؟ قال خالد: إلى الإسلام أو الجزية، أو الحرب. قال فما منزلة الذى يجيبكم ويدخل فيكم؟ قال:
منزلتنا واحدة، قال: فهل له فى الأجر والذّخر مثلكم؟ قال: نعم، وأفضل؛ لأنّنا اتّبعنا نبيّنا وهو حىّ يخبرنا بالغيب، ونرى منه العجائب، وأنتم لم تروا مثلنا، ولم تسمعوا ما سمعنا، فمن دخل بنيّة وصدق، كان أفضل منّا. فقلّب جرجة ترسه، ومال مع خالد يعلّمه الإسلام، وأسلم، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشنّ [1] عليه قربة من الماء وصلّى به ركعتين.
وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد، وهم يرون أنّها منه حيلة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فقال عكرمة بن أبى جهل: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كلّ موطن، وأفرّ منكم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار ابن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا أمام فسطاط خالد حتى أثبتوا [2] جميعا جراجا، فمنهم من برئ، ومنهم من استشهد.
وحمل خالد ومعه جرجة- والرّوم خلال المسلمين- فنادى الناس
[1] شن: صب.
[2]
أثبتو: جرحوا وبهم رمق.
فثابوا، وتراجعت الرّوم إلى مواقعهم، وزحف خالد بالمسلمين إليهم حتى تصافحوا بالسيوف، وضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النّهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصلّ صلاة سجد فيها إلّا الركعتين مع خالد، وصلّى الناس الظّهر والعصر إيماء، وتضعضع الرّوم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، فانهزم الفرسان، وخرجت خيلهم تشتدّ فى الصحراء.
ولما رأى المسلمون خيل الروم أفرجوا لها، فذهبت، فتفرّقت فى البلاد، وأقبل خالد ومن معه على الرّجل، ففضّوهم؛ فكأنّما هدم بهم حائط، واقتحموا فى خندقهم، فاقتحمه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة، فهوى فيها المقترنون وغيرهم، فتهاوى فيها عشرون ومائة ألف، ثمانون ألف مقترن، وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل فى المعركة من الفرسان والرجال، وقاتل النساء يومئذ، وكانت هزيمة الرّوم مع اللّيل. وصعد المسلمون العقبة وأصابوا ما فى عسكر الرّوم، قتل الله صناديد الرّوم ورءوسهم وأخا هرقل؛ وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص- أو بحمص- فنادى بالرّحيل عنها، وجعلها بينه وبين المسلمين، وأمّر عليها أميرا كما أمّر على دمشق.
هذا ما كان من واقعة اليرموك على سبيل الاختصار روى عن عبد الله بن الزّبير، قال: كنت مع أبى باليرموك وأنا صبىّ لا أقاتل؛ فلمّا اقتتل النّاس نظرت إلى أناس على تلّ لا يقاتلون، فركبت فذهبت إليهم؛ فإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش
من مهاجرة الفتح، فرأونى حدثا فلم يتقونى. قال: فجعلوا إذا مال المسلمون، وركبهم الرّوم يقولون: إيه بنى الأصفر! وإذا مالت الرّوم، وركبهم المسلمون قالوا: ويح بنى الأصفر! فلما هزمت الرّوم أخبرت أبى بذلك، فضحك وقال. قاتلهم الله! أبوا إلا ضغنا! لنحن خير لهم من الرّوم.
وقد حكى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله، أنّ أبا سفيان يوم اليرموك كان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله، الله! إنّكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنّهم ذادة الرّوم وأنصار الشّرك! اللهم إنّ هذا يوم من أيّامك، الّلهم أنزل نصرك على عبادك. والله أعلم.
هذا ما وقع فى خلافة أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من الغزوات والحروب، والفتوحات، فلنذكر ما هو خلاف ذلك من الحوادث على السنين، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده.