الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس
قال: وأصبح النّاس من ليلة الهرير- وتسمّى ليلة القادسيّة- وهم حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلّها؛ فسار القعقاع فقال: إنّ الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإنّ النّصر مع الصّبر.
فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء صمدوا لرستم حتى خالطوا الّذين دونه، فلمّا رأت ذلك القبائل قام فيهم رؤساؤهم، وقالوا:
لا يكوننّ هؤلاء أجدّ فى أمر الله منكم، ولا هؤلاء- يعنى الفرس- أجرأ على الموت منكم، وحملوا وخالطوا من بإزائهم، فاقتتلوا حتى قام قائم الظّهيرة، فكان أوّل من زال الفيرزان والهرمزان، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النّقع [1] ، وهبّت ريح عاصف دبور، فقلعت طيّار رستم عن سريره، فهوى فى العتيق، ومال الغبار على الفرس، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السّرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين أطارت الرّيح الطيّار، واستظلّ بظلّ بغل من بغال كانت قد قدمت عليها حمول، فضرب هلال بن علّفة [2] حمل البغل الّذى تحت رستم، فقطع حباله وسقط عليه، فأزاله رستم عن ظهره، ثمّ ضربه هلال ضربة، ففرّ نحو العتيق، وألقى نفسه فيه، فاقتحمه هلال عليه، وأخذ يرجله
[1] النقع: التراب.
[2]
ك: «علقمة» .
ثم خرج به، وضرب جبينه بالسّيف حتّى قتله، ثم صعد على السّرير وقال: قتلت رستم وربّ الكعبة؛ إلىّ إلىّ! فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء، ولم يظفر بقلنسوته، وكانت بمائة ألف.
وقيل: إنّ هلال بن علّفة لمّا قصد رستم رماه بنشابة أثبتت قدمه بالرّكاب، فحمل عليه هلال فضربه فقتله، ثم احتزّ رأسه فعلّقه ونادى: قتلت رستم! فانهزم قلب المشركين، وقام الجالينوس على الردم [1] ، ونادى الفرس إلى العبور، وانهزموا وأخذهم السيف والإسار، وأخذ ضرار بن الخطّاب الدّرفس، وهو العلم الأكبر الّذى كان للفرس، فعوّض عنه بثلاثين ألفا، وكانت قيمته ألف ألف ومائتى ألف، وجعل فى بيت المال.
وقتل فى هذه المعركة من الفرس عشرة آلاف سوى من قتل قبلها، وأما المقترنون فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا.
وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل فى ليلة الهرير ويوم القادسيّة ستّة آلاف، فدفنوا بالخندق، ودفن من كان قبل ليلة الهرير على مشرّق.
وكان ممن استشهد فى حرب القادسيّة بنو خنساء الأربعة، وكان من خبرهم أنّ أمّهم الخنساء الشاعرة بنت عمرو بن الشّريد السّلميّة، حضرت القادسيّة ومعها بنوها الأربعة، وهم رجال، فقالت لهم من أوّل الّليل: يا بنىّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين،
[1] كذا فى ابن الأثير، وفى الأصول: الرمرم.
وو الله الذى لا إله إلّا هو، إنّكم لبنو رجل واحد، كما أنّكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم؛ وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثّواب الجزيل فى حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الباقية، خير من الدّار الفانية؛ يقول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[1]
، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوّكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرّت عن ساقها، واضطرمت لظّى على سبّاقها [2] ، وجلّلت نارا على أوراقها، فتيمّموا وطيسها، وجالدوا رئيسها؛ عند احتدام خميسها، [3] تظفروا بالغنم والكرامة، فى دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها، عازمين على قولها، فلمّا أضاء لهم الصّبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أوّلهم يقول:
يا إخوتى إنّ العجوز النّاصحه
…
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه
مقالة ذات تبيان واضحه
…
فباكروا الحرب الضّروس الكالحه
وإنّما تلقون عند الصّائحه
…
من آل ساسان كلابا [4] نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه
…
وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
[1] سورة آل عمران 200.
[2]
الاستيعاب: «سياقها» .
[3]
الخميس: الجيش.
[4]
الاستيعاب: «الكلاب» .
وتقدّم فقاتل حتّى قتل، ثم حمل الثّانى وهو يقول:
إنّ العجوز ذات حزم وجلد
…
والنّظر الأوفق والرّأى السّدد
قد أمرتنا بالسّداد والرّشد
…
نصيحة منها وبرّا بالولد
فبادروا الحرب حماة فى العدد
…
إمّا لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم غنم الأبد [1]
…
فى جنّة الفردوس والعيش الرّغد
وقاتل حتى استشهد. ثم حمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصى العجوز حرفا
…
قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرّا صادقا ولطفا
…
فباكروا الحرب الضّروس زحفا
حتى تلفّوا آل كسرى لفّا
…
أو تكشفوهم عن حساكم كشفا
إنّا نرى التّقصير منكم ضعفا
…
والقتل منكم نجدة وعرفا [2]
وقاتل حتّى استشهد. ثم حمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا للأخرم
…
ولا لعمرو ذى السّناء الأقدم
إن لم أرد فى الجيش جيش الأعجم
…
ماض على الهول خضمّ خضرم
إمّا لفوز عاجل ومغنم
…
أو لوفاة فى السّبيل الأكرم
وقاتل حتى قتل؛ رحمهم الله [3] .
فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذى شرّفنى بقتلهم، وأرجو من ربّى أن يجمعنى بهم فى مستقرّ رحمته.
فكان عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- يعطى الخنساء أرزاق
أولادها الأربعة؛ لكلّ واحد مائتى درهم؛ حتى قبض رضى الله عنه.
حكاه أبو عمر بن عبد البرّ فى ترجمة الخنساء.
تعود إلى بقيّة أخبار القادسيّة؛ قال:
وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله مثله، وأمر سعد القعقاع وشرحبيل باتّباعهم، وخرج زهرة بن الحويّة التّميمىّ فى آثارهم فى ثلاثمائة فارس، فلحق الجالينوس، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا أكثر الفرس وأسروهم.
قيل: رئى شابّ من النّخع وهو يسوق ثمانين أسيرا من الفرس، وكان الرجل يشير إلى الفارسىّ فيأتيه فيقتله؛ وربّما أخذ سلاحه فقتله به؛ وربّما أمر الرجل فقتل صاحبه.
ولحق سلمان بن ربيعة الباهلىّ وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة من الفرس قد نصبوا راية وقالا: لا نبرح حتّى نموت. فقتلهم سلمان ومن معه، وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضعة وثلاثون كتيبة من الفرس، استحيوا من الفرار، فقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، لكلّ كتيبة منها رئيس، فقتلهم المسلمون.
وكتب سعد إلى عمر بالفتح، وبعدّة من قتلوا، ومن أصيبب من المسلمين، وسمّى من يعرف، وبعث بذلك سعد بن عميلة الفزارىّ، واستأذنه فيما يفعل. وأقام بالقادسيّة ينتظر جوابه، فأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلّف النساء والصّبيان بالعتيق، ويجعل