الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها إيوان كسرى
قال [1] : وأقام سعد ببهرسير أيّاما من صفر، ثم قصد المدائن، وقطع دجلة، وهى تقذف بالزّبد لكثرة المدّ؛ وكان سبب عبوره أنّ علجا [2] جاءه فقال: ما مقامك؟ لا يأتى عليك ثالث حتى يذهب يزدجرد بكلّ شىء فى المدائن، فهيّجه ذلك على العبور، فقام وخطب النّاس، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، ويخلصون إليكم فى سفنهم إذا شاءوا، وليس وراءكم ما تخافون منه، فقد كفاكم الله أهل الأيّام، وقد رأيت من الرّأى أن تجاهدوا العدوّ؛ إلّا أنّى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم؛ فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرّشد، فافعل.
فندب الناس على العبور، وقال: من يبدأ ويحمى لنا الفراض [3] حتى تتلاحق به النّاس؛ لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس فى ستّمائة من أهل النّجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فتقدّمهم عاصم فى ستين فارسا، قد اقتحموا دجلة، فلمّا رآهم الأعاجم، وما صنعوا أخرجوا للخيل الّتى تقدّمت مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فلقوا عاصما وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرّماح الرّماح! أشرعوها، وتوخّوا العيون، فالتقوا،
[1] ابن الأثير 2: 256.
[2]
العلج: الرجل من كفار العجم.
[3]
الفراض: جمع فرضة، وهى محطة السفن من النهر.
فطعنهم المسلمون فى عيونهم، فولّوا ولحقهم المسلمون، فقتلوا أكثرهم، ومن نجا صار أعور، وتلاحق الستمائة بالسّتين [1] .
ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها؛ أذن للنّاس فى الأقتحام، وقال: نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّى العظيم. واقتحم الناس دجلة يتحدّثون كما يتحدّثون فى البرّ، وطبّقوا دجلة حتّى ما يرى من الشّاطىء شىء.
قال: ولم يكن بالمدائن أعجب من دخول الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم، لا يبقى أحد إلّا انتشرت [2] له جرثومة من الأرض يستريح عليها؛ حتى ما يبلغ الماء حزام فرسه، فعبروا سالمين، لم يعدم منهم أحد، ولا عدم لأحد شى إلّا قدح لمالك بن عامر سقط منه فجرى فى الماء، ثم ألقته الرّيح إلى الشّاطىء، فأخذه صاحبه، فلمّا رأى الفرس عبورهم خرجوا هرّابا نحو حلوان، وكان يزدجرد قد قدم عياله إليها قبل ذلك. ولمّا هرب حمل أصحابه من بيت المال ما قدروا عليه ممّا خفّ، ومن النّساء والذّرارىّ، وتركوا فى الخزائن من المتاع والثّياب والألطاف ما لا تدرك قيمته، وتركوا ما قد أعدّوه للحصار من الأطعمة والغنم والبقر، وكان فى بيت المال ثلاثة آلاف ألف، أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسيّة النصف، وبقى النّصف.
وكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهى كتيبة
[1] بعدها فى ابن الأثير: «غير متعتعين» .
[2]
ابن الأثير: «اشمخرت» .
عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء وهى كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا فى سككها وأحاطوا بالقصر الأبيض وبه من بقى من الفرس، فأجابوا [1] إلى الجزية والذّمّة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة فى آثارهم إلى النّهروان، و [سرّح][2] مقدار ذلك فى كلّ جهة.
وكان سلمان الفارسىّ رائد المسلمين وراعيهم. دعا أهل بهرسير ثلاثا، وأهل القصر الأبيض ثلاثا. واتّخذ سعد إيوان كسرى مصلّى، ولم يغيّر ما فيه من التماثيل، ولمّا دخل الإيوان، قرأ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
[3]
.
وصلّى فيه صلاة الفتح ثمانى ركعات لا يفصل بينهنّ [4] ، وأتمّ الصلاة لأنّه نوى الإقامة، وكانت أوّل جمعة أقيمت بالمدائن فى صفر سنة ستّ عشرة.
[1] فى ابن الأثير: «ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية» .
[2]
زيادة من ابن الأثير.
[3]
سورة الدخان 25- 28.
[4]
بعدها فى ابن الأثير: «ولا يصلى جماعة» .